منزلة الجهاد في سبيل الله(1) بين الاستشهاد والانتحار


عندما يجود العبد بنفسه في سبيل الله

نلتقي اليوم بحول الله عز وجل في حلقة أخرى من منزلة المحبّة التي هي من أرقى منازل السالكين العابدين، وذلك أن الله عز وجل قد وَصَف المؤمنين إذ يَبْلُغون رتبة يُعطي فيها الإنسانُ نفسه لله، وذلك بصفته مجاهداً في سبيل الله، وَصَفَه الله عز وجل بكونه مُحِبّا، ولا يبلغ المؤمن رتبة الجهاد في سبيل الله إلا إذا كان محِباً، ذلكم أنه يستحيل أن يُقدِم إنسان ما على هلاك نفسه في الدنيا وهو يعلم ذلك إن لم يكن ضامنا وموقنا يقينا تاما أنه يلقى خيرا مما هو عليه الآن في الدنيا، فرق كبير بين المجاهد إذ يُقبِل على الموت وبين المُنتحِر -والعياذ بالله- إذ يُقبل على الموت، وهذا الفرق قبل أن أفصِّله بالبيان أذكر قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَن يَرْتَدد مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(المائدة: 54)، ذكرنا أسباب المحبّة الجالبة لها، ونذكر اليوم سببَها الخاتَم الجامع المانع وهو سَببُ الجهاد في سبيل الله، {فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} وهذه اللفظة نكرة، ولعل الصوفية الأوائل الذين لم يتأثروا ببدع ما حدث بعدُ في التاريخ سَمَّوا السالكين إلى الله بالقوم، والذي يقرأ كُتب الزهد والتصوف في الصدر الأول من الأمة يجد أن عبارة القوم تُطلق على هؤلاء الناس هي: (القوم)، قلت لعل هذه اللفظة أُخِذت من هذه الآية  {فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ}   فإذ ذكر القوم، يُقصَد أساساً الذين يُحبُّهم الله ويُحبُّون الله، ولا يمكن أبدا أن يَحصُل الإنسان على هذه الرُّتبة بالدعوى،  بل لا يحصل عليها إلا بالعمل، وهذا فرق ما بين البدع والصلاح، ذلك أن أهل البدع كلهم دعوى، أما العمل فلا، وأما أهل الصلاح فعَمَلٌ، وعملٌ مبني على المحبّة سبقاً إذ يبلغ الإنسان أن يَبذُل نفسَه في سبيل الله،

الاستشهــاد  غير  الانتحـار

تصور بذهنك كيف يقبل فتى في ريعان الشباب، كما يحدث الآن في فلسطين وفي غير فلسطين من البلاد التي قد لا نَعلَمُها وقد نَعلَمُها، وكما حدث لدى الصحابة أنفسهم، ترجم البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، باب هل يذهب الطليعة وحده؟ (الطليعة): جمعه طلائع وهي لفظة في الاصطلاح الفقهي الحديث تدُلُّ على من يكون في مقدمة الجيش ولو كان فردا، يعني مُعَرَّضٌ بنسبة كبيرة جدا للموت، للشهادة، وأورد البخاري وغيره من الأحاديث الكثيرة مِمّا وقع للصحابة أنفسهم أنهم اقتحموا على العدو فُرادى، صحابي وحده يقذف بنفسه وسط العدو فيفتح باب المدينة المحاصرة للمسلمين ويُقتل، ويقتحم المسلمون بعد ذلك المدينة فيفتحونها، فمثل هذا موقِنٌ بالموت مائة في المائة إلا أن يشاء الله أنه سوف يموت، ولذلك فرق بين ما يسميه الإعلام الفاسد المُغرِض بالعمليات الانتحارية، لأن الانتحار يقود صاحبه إلى نار جهنم -والعياذ بالله- بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تردى من جبل فهو يتردى فيه في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبدا)) والعياذ بالله، وكذلك ((من قتل نفسه بحديدة فهو يقتل نفسه بها خالدا مخلدا فيها في نار جهنم)) والعياذ بالله أو كما قال عليه الصلاة والسلام، الذي ينتحر بأي طريقة من الطرق يبقى كذلك يعذب بالطريقة نفسها التي انتحر بها في الدنيا في نار جهنم، يُحييه الله ثم يتردى ثم يحييه ثم يتردى، يعذب كذلك على الخلود الدائم في النار نسأل الله السلامة والعافية. إذن فرق كبير بين من يُقبل على الموت مجاهدا ومن يُقبل على الموت منتحراً أما المجاهد فلا يكون إلا مُحبّاً، {فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}(المائدة: 54) وهذا فضل كبير، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوْتِيهِ مَن يَشَاءُ}(المائدة: 54)، وهذا أمر إنما يصل إليه من وفَّقه الله إلى حبّه، ومن أحبَّه الله {فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، أحبهم الله أولاً، جات عبارة محبة الله للعبد قبل محبة العبد لله، يحبهم ويحبونه،

الـمنتحـر مـريـض

المنتحر لا يكون إلا مريضا بأحد معنيين، إما مريض فعلاً وقع له اهتزاز في النفس ديالو والعياذ بالله، يعني بالمعنى نفسه، المعنى الكلينيكي، مريض، كان بالإمكان أن يعالج عند الطبيب إن شاء الله، أو مريض بالمعنى الروحي، ومن أسوأ الأمراض الروحية اليأس والقنوط والعياذ بالله واليأس والقنوط أصلا لا يكون إلا في الكفار {وَلاَ تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(يوسف: 87)، فقدان الأمل في رحمة الله هذه صفة الكفار، يأس كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أما المؤمن الذي يوقن بالحياة بعد الموت، ويوقن بالحساب والعقاب، ويوقن بفضل الله وبالجنة، لا يمكن أبدا أن يُصاب بمثل هذا مهما وقع له من مصائب الدنيا، ما الذي يمكن أن يقع له في الدنيا؟ يُفقر من ماله ويُصاب بأدواء في بدنه، ويُصاب بما قد يُصاب من البلايا والرزايا نسأل الله العافية، فإنه مع ذلك يرى أن فضل الله عليه كبير، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر جرعة ماء، فما ينبغي أن يقع مثل هذا لمؤمن حق، وإنما يقع مثل هذا الداء لمن فقد إيمانه حقيقة، لا ينتحر المنتحر إلا وقد كفر، لأن اليأس وصل به والعياذ بالله إلى أن فقد الثقة في الله سبحانه، أو يخلف الله وعده؟ أبدا، حاشا لله، فإذن الذي ينتحر عادة يكون قد يأس من الدنيا ومن الآخرة، ضاق بالهمّ والمشاكل والمصائب، والذي له أمل في الآخرة لا ينتحر، لأن المؤمن لا يضيق بها لأنه يرى فضل الله عليه في ذلك البلاء، والمؤمن “أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”، وكم من عبد رفعه الله إلى مقام الصديقين بالصبر، وخير مثال لذلك صبر أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، إذن حال المنتحر حال مَرَضِيَّةٌ.

أقصر طريق إلى ملاقاة  المحبوب

أن يستشهد العبد المحب في سبيل

ذلك المحبوب

أما المجاهد فلننظر إلى ما يحدث الآن وما حدث في السابق من تاريخ الإسلام كله فهو مليء بمنارات الهدى من أمثال هؤلاء الشهداء الذين يرسمون للناس وللمؤمنين بعد حججا من حجج الله على خلقه يُقبِل على الاستشهاد -ولا نقول الانتحار- وهو في كثير من الأحيان شاب ويملأ قلبه أمل في الحياة ولا يكون يائسا، كم منهم من كان حديث عهد بالزواج أو خاطبا، مقبلاً على الحياة وليس هاربا منها أبدا، ليس بسكران ولا بمخدر، إطلاقا، إنه في تمام وعيه، بل في وعيه الحقيقي، وهو هو الذي وصل إلى الوعي الحقيقي وأدرك ما الحياة وما الموت، لأن المؤمن لا يدرك هذه الحقائق إلا في أحد أمرين إما أن يبلغ به الإيمان رتبة كرتب الصحابة أو يقاربهم أو يموت، {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(ق: 22)، مثل هذا يكون قد رأى الحقائق كما هي، وامتلكت قلبَه محبَّةُ الله، فهو لذلك لا يصبر، إلا أن يُقارب المحبوبَ ويقتربَ منه، وأقصر طريق إلى ملاقاة المحبوب أن يستشهد العبد المحب في سبيل ذلك المحبوب، وقد قال أحد الصحابة وقد أوتي بتمرات يأكلهن وهو ينظر إلى القتال وقد استَعر بين المؤمنين والكافرين: “بخّ بَخ ما بيني وبين الجنة إلا هاته الثمرات” فألقاها ولم يتم أكلها ثم دخل إلى المعركة فقاتل حتى استُشهد رضي الله عنهم أجمعين، إنها محبة الله إذا امتلكت القلب فإن العبد يهفو إلى ملاقاة الحبيب، وملاقاة الأحبة بعد ذلك محمدا وصحبه عليه الصلاة والسلام، محمدا وصحبه كما قال بلال رضي الله عنه لما مرِض مرَض الموت ذكر الله عز وجل ثم ذكر محمدا عليه الصلاة والسلام، وكان ينطق برَجَز منه “اشتَقتُ الأحبة محمدا وصحبه” يذكر مثل هذا الكلام، محمدا وصحبه عليه الصلاة والسلام، فالشوق يدفع العبدَ إلى طلب المشوق إليه، والقلب المشوق أي الذي أخذه الشوق لا يصبر إلا على أن يلتقي من يحب، فإذن هذه الحال صحية وليست مرضية، الذي استشهد في سبيل الله ليس مريضا، بالعكس في تمام الصحة والعافية، نحن المرضى، أما مثله ففي كمال صحته وعافيته وجمال روحه، فلولا المحبة ما استشهد شهيد في سبيل الله، لأنه يعلم أنه يألم، والقتال ألم،{إِن تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ}(النساء: 104)، الكافر يَألَم بالقتال لأنه يموت ويُجرَح، كثيرا ما نقول: (الحرب النفسية) التي تخلف عند الإنسان حالة من التوتر، ولذلك قال الله عز وجل في القرآن {حتى تضع الحرب أوزارها}، سماها أوزارا، فكذلك المؤمن يألَم في الحرب،{إِن تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ} ولكن أنتم، {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}(النساء: 104)، أنتم تسوقكم المحبّة، الرجاء في الله، تطلبون الفضل الذي بيد الله، والخير الذي عند الله، أما أولائك فبأساء، المقاتل من الكُفّار أو من غيرهم ممن لا دين له، هو في الجبهة وتخالجه أفكار دنيوية ساقطة، حدثني أحد الصالحين من الفلسطينيين عن حرب لبنان التي كانت في سنة اثنين وثمانين، خلال هجوم اليهود على لبنان وإخراج الفلسطينيين منها، حيث كانت  بعض الفصائل الفلسطينية تقاتل في الخنادق، وكلنا يعلم أن الجنود يتزودون بقنينة الماء ليستعينوا بها على إطفاء العطش، ولكن الغريب أن بعضهم كان يملؤها بالخمر (الويسكي) أعزكم الله بدل الماء، فهل يمكن أن نعتبر هذا مقاتلا في سبيل الله؟ حاشا هذا بئيس، لماذا؟ لأنه يخدّر عقله حتى لا يعرف ماذا يفعل، لا يملك نفسية القتال، ومثل هذا مهزوم ابتداءً، وهذا الذي حصَل، لا يُقاتِل حقّ القتال إلا محبّ يَعي ما يصنع ويُقبل بصدر رحب فَرِح، مسرور، مَشوق، يحمله الشوق إلى ملاقاة الله، {فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمِ}(المائدة: 54)، وما أدراك ما قوم، {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}(المائدة: 54)، إنها مرتبة عالية، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}، وليس لكل الناس، {يوتِيهِ مَن يَشَاءُ}، للمحبوبين فقط، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سبحانه وتعالى.

-يتبع-

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

——-

(ü) منزلة الجهاد في سبيل الله من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>