حلاوة الاعتزاز بالانتساب للاسلام – أبو  ذر  الغفاري 


كان أبو ذر بحنيفيّته أو بفطرته الحنيفية منكرا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله تعالى ، وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات(1) دون أن يخصَّ قبلةً بعينها بالتوجه.

ولما سمع بدعوة النبي قدِم إلى مكة، وكَرِه أن يسأل أحدا عن الرسول صلى الله عليه وسلم(2)، حتى رآه علي رضي الله عنه فاستضافه ثلاثة أيام بدون أن يسأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره أنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له علي : فإِنَّهُ حَقٌّ، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتَّبِعْني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك منه قُمتُ كأني أُريقُ الماء(3)ـ فإن مضيتُ فاتبعني، فتبعه، وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى قوله ودعوته القرآنية، فأسلم، فقال له النبي  صلى الله عليه وسلم : ((ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَاْتِيكَ أَمْري)).

إلا أن حلاوة العثور على دين صحيح يملأ القلب اطمئنانا وثقة بالله تعالى وهداه وشرعه، جعلتْ أبا ذر لا يستسيغ أن يومن سرا، ويخرج سرا خائفا من بطش الكفار المراقبين لكل تحركات الرسول والمؤمنين… دُونَ أن يُخْزِيَهُم ويُذل كبرياءهم، ليُري الطغاة المتجبِّرين أن الله عز وجل أقوى منهم، وأن دين الله تعالى أرفع شأنا من أن يطفئ نورَه مجرمون خبثاء، ومفلسون سفهاء. فقال : “والذي نَفْسِي بِيَدِه لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ” فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته : “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله” فثار القوم وصاروا يضربونه حتى أضجعوه. فأتى العباس رضي الله عنه فحذَّرهم من انتقام قبيلته غفار(4) بالتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم، في المرة الأولى، والثانية، والثالثة.

مغامرة أبي ذر با لجهر رغم تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم :

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل جهد الإمكان لتجنيب المسلمين المستضعفين التعرضَ للأذى والفتنة من الكفار خوفا عليهم من أن يموتوا تحت التعذيب أو يُفتنوا في دينهم، وإذا فُتنوا، ولم يتحملوا، كان يُصَبِّرُهمْ أو يَسْمَحُ بإتيان الرخص، فقال لخباب بن الأرث رضي الله عنه عندما قال له ـ وهو في شِبْهِ ضُعْفٍ ويأس وقنوط وعدم تحمُّل ـ “ألاَ تَسْتَنْصِرْ لنا؟ ألاَ تَدْعُو اللَّهَ لنا؟”

فصِيغَةُ السؤال ليستْ طلبا هادئا، ولا طلبا يوحي بالرضا التام، ولكنه سؤال تَحْضيضيٌّ تحريضِيٌّ تُشَم منه رائحة القنوط وقُرب نفاد الصبر، فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم صَدْمَةً موقِظَةً للإشعار بأن نعمة الهداية لها ضريبة كبيرة، فلا ينبغي أن تقابَلَ بشيء من المَنِّ، فالمَنُّ لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قد سبقكم من مَنَّ الله عليهم بهذه النعمة  فما شكَوْا ولا تألَّمُوا. وقبْلَ هذا وبَعْدَه. فسَبَبُ هذا الشعور بالقنوط استِعْجَالُ الفرج والنَّصْر بُغْيَة التَّمتُّع  الحلال بزينة الدنيا. أما الحقيقةُ السُّنَنيَّة ـ التي عند الله تعالى في غَيْبِه المغيّب عن الضِّعاف ـ فهي أن دين الله عز وجل منصور، وأن الكفر مَقْبُور.

فقال صلى الله عليه وسلم : ((كان الرَّجُلُ فِيمَنْ كان قَبْلَكُمْ يُحفَرُ لَهُ في الأرض، فَيُجعَلُ فيهِ، فَيُجَاءُ بالْمِنْشَار فَيُوضَعُ على  رَأْسِهِ، فيُشَقُّ باثْنَتَيْن، وما يَصُدُّه ذَلِكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاط الحَدِيدِ ما دُون لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أو عَصَبٍ وما يَصُدُّه ذلك عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأَمْرُ، حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ والذِّّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ))(5).

وقال لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي قال ما قال، وأعطى للكفارـ لسانًا ولفْظاً فقط ـ ما أرادوا : “إِنْ عادُوا فَعُدْ”(6).

فلماذا غامر ابو ذر بالمجاهرة بإسلامه مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان؟ لأنه فَهِمَ من وصاية الرسول صلى الله عليه وسلم له بالكتمان أن الوصية شفقة عليه فقط، وليس أمرا واجبا، فحاشاه أن يخالِف أمْرَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا السبب لم يُعاتبه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أقَرَّه على ذلك ما دام به قدرة على التحدي، وتلك هي الحلاوة التي لا يُقَدِّرُهَا إلا صاحبُها، ولقد ترك أبو ذر رضي الله عنه بهذا الموقف للفقهاء والعلماء نبعا فياضا يُجوِّزون بسَبَبه الجهر بالحَقِّ لمن يَسْتَيْقِنُ أنه سَيُؤْذى في سبيل ذلك إن كان قادرا على التحدي والمواجهة وضامنا الكَبْتَ المعنويَّ لأعداء الله تعالى، وإن كان في السكوت مندوحة ومهرَباً للعاجزين عن المواجهة.

ولقد عمل أبو ذر بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا قومَهُ غِفار، فأَسْلَمَ نصفُهم، وأسلم النصف الباقي بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيهم صلى الله عليه وسلم: “غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وأَسْلَمَ سَالَمَها الله”(7).

المفضل فلواتي رحمه الله تعالى

——

1- المقصُودُ هنا صلاة الحنفاء التي كانت اجتهاداً، كما كان يفعل زيد بن عمرو الذي كان يقول: ((إنِّي على مِلَةِ ابْرَاهِيم ثُم يسْجُدُ على رَاحَتَيْهِ)).

2- مخافةَ أن يؤذى ويُمنع من الوصول اليه لمعرفته بشدة العداوة والمراقبة له.

3- المقصود كأنه يبُولُ ليتَجنَّبَهُ الناس.

4- لأنها كانت قبيلة اللصوص وقطاع الطرق، وهذا ما جَعَل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم حينما أخبره أنه من غفار، وفي بعض الروايات عندما أخبره أنه من غِفار، وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على جَبْهَتِه -أي تعجّباً- فقلت في نفسي : ((كرِه أن انتَمَيْتُ إلى غفار)) فقال لي صلى الله عليه وسلم : ((مَتَى كُنتَ هَاهُنا؟)) فقلت : منذ ثلاثين يوما وليلة، فقال : ((فمَن كانَ يُطْعِمُك؟)) قلت : ما كان لي طعامٌ إلا ماء زمزم، فسَمنْتُ حتى تكسّرتْ عُكن بطني، وما أجدُ على كبدي سخفة جوع، فقال صلى الله عليه وسلم : ((إنَها مُبَارَكَةُ إنها طعَامٌ طُعْمٌ)) انظر أصحاب الرسول لمحمود المصري 219/2.

5- البخاري انظر السيرة النبوية د. محمدي محمد الصلابي : 259/1.

6- وقد عذره الله تعالى وعذر جميع العاجزين بقوله تعالى : {منْ كَفَر باللّه من بعْدِ إيمَانِه إلاّ مَنْ أكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإِيمان}(النحل : 116) نفس المرجع 266.

7- رواه مسلم، غفار قبيلة أبي ذر وأسْلم قبيلة مجاورة لها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>