اللباس يصنع التاريخ – زمن الأنبياء


{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يومنون}(آل عمرن:26)

 الـمعـركـة   الأبـديـة

ليست معركة الستر والعري معركة طارئة، إنها المعركة الأبدية…إنها الصورة المجسدة لمعركة الحق والباطل….خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، وكان من مقتضيات التكريم أن استخلفه في الأرض، وحتى يشعر بحقيقة هذا التكريم أسجد له الملائكة… {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس}(لحجر :30). من هنا  تبدأ المعركة بين الخير والشر… الشر الذي يمثله إبليس أكمل تمثيل…فما كان غاية إبليس من تلك المعركة، وما مقصده؟ لقد كان مقصوده أن ينزل آدم من عليائه وستره، وأن يتعرى…

خلق الله تعالى آدم وأسكنه الجنة، وأنعم عليه ومنّ عليه بنعم كثيرة، منها نعمة الملبس والمسكن والمطعم والمشرب، وتلك أمور من حق الإنسان أن ينالها، فإن اغتصبها منه أحد فمن حقه أن يطالب بها، ويقاتل من أجلها…وكما أن الجوع والعطش عذاب، فكذلك العري عذاب.

قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى  وإنّـَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}(طه :116- 119)

هذا وعد من الله لآدم: في الجنة، لا عذاب مطلقا، بل نعيم، ورفاهية عيش، من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جو مناسب للمزاج.

((لا تضحى))، من شمس الضحى. قال في التحرير والتنوير: ((وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: ((ألا تجوع فيها ولا تعرى)) وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله: ((لا تظمأ فيها ولا تضحى)) لمناسبة بين الجوع والعري، في أن الجوع خلو باطن الجسم مما يقيه تألمه وذلك هو الطعام، وأن العري خلو ظاهر الجسم مما يقيه تألمه وهو لفح الحرّ وقرص البرد، لمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الشمس والثاني ألم حرارة الظاهر. فهذا اقتضى عدم ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر، وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليبهما، إذ جمع النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب النظائر من أساليب البديع  في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر))(1).

وقد أقسم إبليس على غواية آدم. فإلى أي النعم التي كان فيها آدم توجه الشيطان؟

لقد توجه إلى تجريد خصمه من نعمة اللباس. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}(الأعراف :27).

فعلام كان التوجه إلى إزالة نعمة اللباس دون غيرها من النعم؟

لأن سبيل إغواء آدم بصرفه عن المسكن والمطعم والمشرب أمر مستحيل، حيث لا غنى للإنسان عن تلك النعم، وتلبيس إبليس فيها أمر مستحيل. فلن يستطيع البشر- طبيعة- الاستغناء عن المطعم والمشرب والمسكن. وأما اللباس، فهو وإن كان ظاهرة إنسانية، ولا يستغني عنه الإنسان، إلا أن التلبيس فيه قائم وجائز. فالإنسان السوي ذو الفطرة السليمة يأبى التعري، ويرفض التخلي عن اللباس، إلا أن غواية الشيطان تدخل من باب آخر، ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وهو باب التزين والتفنن الذي قد يكون أمرا طبيعيا، فإذا أصابه انحراف تحول إلى تبرج وتكشف، أو إلى ستر يكون العري أفضل منه…فتثار الشهوات، فإذا نحن أمام ما حذر منه الرسول، صلى الله عليه وسلم، من أمر (الكاسيات العاريات)((نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة))(2).وقد وجد أولئك الذين انحرفت فطرتهم طريقاً منظما إلى العري، حيث أسســــوا ((أندية العراة))، ولبـّـسوا على الناس في تسمياتها بأسماء ليس فيها إثارة، مثل ((نادي البحر المتوسط)).

إلا أن ظاهرة العري، مهما ألقى أصحابها لأنفسهم من صيغ وأطر، تظل ظاهرة منبوذة، ينظر إليها بعين الاستنكار من كل المجتمعات. إن عددا من دور الأزياء، وعددا من المهرجانات التي ترفع “الفن” شعاراً لها، وعددا  من الوصلات الإشهارية التي تزخر بها كثير من الفضائيات، وعددا من المواسم التي يقال عنها إنها مواسم سياحية، كل أولئك ليس غير مزمارة الشيطان الداعية إلى نبذ أول برقع معنوي، وهو برقع الحياء….فإذا سقط ذلك البرقع المعنوي تبعه سقوط البراقع المادية، وإذا ذهب الحياء سهل بعد ذلك على جنود إبليس أجمعين أن يأمروا أشياعهم فيغيروا خلق الله.

عندما بدأ في العالم الإسلامي، منذ القرن التاسع عشر، ما سمي بمعركة السفور والحجاب، كان دعاة السفور يرفعون شعار الحرية والتحرير، وكثير من الناس لا يعلم أصل تسمية ((ميدان التحرير))، وهو من أشهر ميادين القاهرة…إن أصل هذه التسمية لا علاقة ها بالحرية والتحرير، ولا علاقة  لها بمحاربة المستعمر الذي كان يجثم على كثير من بلاد المسلمين، بل أطلق على ذلك الميدان “ميدان التحرير” لأن زعيمات حركة السفور نزعن في ذلك الميدان برقع الحياء، ومزقن سترهن، وخرجن ملوحات، وكأن أقصى ما يطمح إليه دعاة الحرية هو أن تنزع المرأة عن وجهها ورأسها ونحرها لباسها الشرعي، في انصراف عن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّء قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُومِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُوذَيْنَ}(الأحزاب :60).

ولعل الله عز وجل  أن يكون قد أراد أن يطهر هذا الميدان من دلالة أصل تسميته، ليصبح فعلا ميدانا للتحرير، بعد الثورة المباركة التي ذهبت بطاغوت من طواغيت العصر.

ومن مكر الماكرين أن أولئك الذين رفعوا شعار الحرية من أجل أن تنسلخ المرأة المسلمة عن هويتها، هم الذين يتصدون اليوم للائي يفئن إلى أمر الله عز وجل، وهم الذين يحاربون الحرية، ويرفعون شعار: ((لا حرية لأعداء الحرية)) و ((لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية))، وما شابه ذلك من الشعارات، ويرون في منديل تغطي به تلميذة رأسها، أو امرأة تتعفف عن إبداء زينتها للأجانب تهديدا للعلمانية والحداثة والديمقراطية…وهؤلاء لا يتورعون عن استعمال أقسى أدوات الضغط والترهيب ضد ما يرونه خارجاً عن الخط الذي هم يسيرون فيه…

إن هذا يذكرنا بمعركة العمامة والقبعة أوائل زمن تركيا الكمالية…لقد نصبت المشانق لأصحاب العمائم الذين رفضوا أن يستبدلوا بعمائمهم القبعات الغربية…وكان الناس، زمنا، يصبحون وعيونهم على أجساد معلقة لرجال تعبث الريح بعمائمهم ولحاههم.(3)

أو ليس من الغريب أن  تمنع المرأة من ارتداء لباسها الشرعي في بلدها المسلم، ويعتبر منها ذلك جرما تعاقب عليه وينعت بأنه “لباس طائفي” ، مثلما كان يسميه حاكم قرطاج المخلوع؟ وأي طائفية يعبر عنها الحجاب في بلد كل ساكنيه مسلمون؟ ولكنها الحرب على الله عز وجل تتخذ صورا ومظاهر كثيرة.

د. حسن الأمــراني

———

1- الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير، في تفسير سورة طه.

2- رواه مسلم، وذكره النووي في رياض الصالحين.

3- لمن أراد التوسع أن ينظر في مذكرات رضا نور، أو كتاب “الرجل الصنم”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>