تهل علينا الهجرة النبوية بكل حمولتها الغضة اليانعة، ومعانيها البليغة الدلالات والمحطات ونحن في حالنا هذا من التدافع المنحرف المنطلقات والغايات يصدق فينا قوله تعالى : {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتاتون السحر وأنتم تبصرون}.
ليضعنا الله عز وجل أمام هذا التشخيص الحكيم لأدوائنا التي تنطلق من القلب وتعود إليه مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاح وفساد مضغة القلب.
وسنتوقف عند بعض هذه الدلالات المضيئة من الهجرة النبوية، علما أن السيرة مشكاة كنوز، يحار معها لب المشتاق، حين ينشد الارتواء.
وأعني بالمشتاق ذاك الذي عرف فغرف، ولا أعني بالمعرفة تلك التي يفرغها بعض الدعاة من شحنتها الروحية ويحملوها لمستمعيهم مجرد معارف ومعلومات باردة مرصوصة اللفظ حول مسار الهجرة، استهلالا ببيعة العقبة الثانية وتآمر المشركين في دار الندوة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهاء بالوصول إلى دار النصرة الربانية المباركة بالمدينة.
بل أعني بالمعرفة تلك التي يستلهم المرء فيها بعد طول تشرب واستحضار “قلبي لا عقلي مجرد فقط “، معنى كل محطة في الهجرة النبوية، والرسائل التشريعية في العبادات والمعاملات التي رشحت عن هذه الهجرة من مواطن الاستضعاف إلى مواطن التمكين والعزة.
ولا تكاد تجد في زمن المخلفين الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات إلا قلة مهمومة بالدين، تنشد إحياء هذه الرسائل التي لو فكت شفرتها لخلقت لنا رصيدا من مدونات للسلوك الحضاري الرفيع تذل لها رؤوس الجبابرة وتنكسر لها رقاب الرويبضة.
وفك الشفرة يتطلب اشتغالا على مستوى الأنفس والقلوب كما قلنا في بداية المقال لإخلائها من الإفراط في التهالك على الدنيا وزينتها وشحنها بروح الدين، حتى إذا استوت على سوقها وتشوقت إلى أعمال الجنة فتح الله عليها ووفقها إلى إدراك مضامين رسائل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وفي السياق يمكن أن نستدل على ملامح هذه الأرواح النورانية المشغولة بعيوبها وبعمليات التطهر والتزكي، باستدعاء شخصين من الزمن الحاضر، أحدهما أفضى إلى ما قدم من أعمال جليلة في سبيل الدعوة والآخر لازال على قيد الحياة وما بدل تبديلا. ويتعلق الأمر بالدكتور فريد الأنصاري عليه أطيب الرحمات، الذي تذهل وتحار العقول لمرامي ومقاصد كتاباته سواء منها الأدبية أو الفكرية وهي تغرف من كتاب الله عز وجل وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فتبسط أمامنا فتوحات ربانية عجيبة في مقاربة الكلمات وسيل المعاني المحجوبة إلا على من فتح الله عليه.
كما أضع بين يديك قارئي الشخصية الفذة الأخرى : شخصية الأستاذ فتح الله كولن أمد الله في عمره وأحاطه بأنوار القبول والتمكين، تلك الشخصية التي كلما وضعت قطافها النوراني بين يدي تهت في دروبها وصعقتني فيوضات المعاني التي تنسكب من حروفها، إذ يلج فتح الله كولن المحراب القرآني عارفا، “والعارف لا يعرف كما يقول صوفيونا السنيون”، ويطلع إلى السطح محملا بكنوز المعاني، حيث يصلها بمنحوتاته التأملية في أسفار السنة النبوية الشريفة، ليقدمها للقارئ خارطة طريق مذهلة في تلمس معالم السراط المستقيم، للخروج من متاهات الأقوال والأحوال إلى مروج الولاية والاصطفاء.
وكلا الرجلين قبل الغوص المبارك في هذا المحيط الزاخر سبقتهما مسيرتهما الربانية صلاة وعبادات ومعاملات وإيثارا للحق وتجملا بالتقوى. وأمثال هؤلاء العارفين هم الطليعة المباركة التي من شأنها أن تقود أجيال الصحوة إلى صناعة الفلاح مصداقا لما جاء في سورة العصر، من خلال القرآن الكريم وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعثرته الميمونة، وأصحابه الأخيار. أولئك الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله سبحانه وتعالى والهرولة إلى حلاله والفرار من حرامه.
فهل نملك ونحن المشدودون إلى الثرى.. المثقلون بأوزارنا، زاد العارفين من أولئك الفرسان النورانيين لنفك شفرة دروس وعبر أحداث عظيمة كأحداث الهجرة النبوية، وهل نستطيع كسر الطوق الرخامي الذي سيجنا به قلوبنا لنتمثل بحق خفايا تلك السير الرجالية والنسائية المنقطعة النظير؟؟؟.
إن الخواء الذي يجرف أبناءنا اللحظة إلى مستنقعات الغثائية ويدفعهم دفعا إلى حشو خوائهم بتوافه الأمور، حد طلاء كل جدران المدن المغربية على سبيل المثال بطلاءين لا ثالث لهما : الأحمر الودادي والأخضر الرجاوي، وتسطير شعارات استرخاص الأرواح من أجل فريق رياضي ينعتونه بأنه “أمل الأمة”، بل حد الموت من شدة الفرح لتأهل الفريق المأثور، لهو الطامة الكبرى.
وتلك قصة أخرى… وبالعودة إلى أبطال الهجرة النبوية بين مهاجرين وأنصار، من الذين سطروا ملاحم عظيمة في الثبات على دينهم فإن إطلالتنا هذه العابرة لن تستطيع الإحاطة ولو بتفاصيل سيرة واحدة من سيرهم العملاقة وبالتالي وبالنظر إلى المقصد الأول لهذا المقال وهو التوقف عند الهجرة النسائية إلى المدينة رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتغاء نصرة الدعوة وفي أشد الظروف قسوة ووحشة لنصوغ بيانا في تفسير ” الواضحات ” من ملامح التمكين الإسلامي للمرأة، فسنكتفي بالتدبر في بعض من زوايا تجربة امرأة واحدة، واحدة فقط، يفوق مستوى حركيتها، ونبل تصرفاتها وجرأة مواقفها البطولية، تطلعات نساء الزمن الحاضر المهووسات بمفهوم الحقوق فحسب.
ومناسبة هذا الاختيار دون غيره كما لمحنا إلى ذلك، هو ما استفز هاجع مشاعري في الأيام الأخيرة، وأنا لا أكاد في أية محطة مكتوبة أو مشاهدة عبر الفضائيات أجد تصريحا يخلو رمزا أو إيضاحا من عبارات اللمز في قدرة المشروع الإسلامي على مسايرة الطفرة التقدمية التي عرفتها المرأة العربية المسلمة، والخوف كل الخوف مع صعود الحركات الإسلامية وتسلمها مقاليد الحكم من انتكاسة لهذه الطفرة، وارتداد لوضعية المرأة إلى مستويات الحجر والتغطية الكاملة للجسم والجلد والرجم كما لا يفتأون يولولون.
وإذا كان مفهوما أن تروج هذه الإساءات على لسان الذين يستغشون ثيابهم باعتبارهم قادة لمشروع هيمني على كل المستويات بما فيه الثقافي، وكل تراجع منهم سيستتبعه تراجع على مستوى مكتسباتهم الاستعمارية الجديدة، فإن ما يغص به القلب قبل الحلق هو ترديد أبناء جلدتنا لهذه الافتراءات وشدهم على قلوبهم هلعا من وصول “الإسلاميين” إلى السلطة بما يعني ذلك ” كما يعتقدون ” من ضرب لنضالهم المستميت لإنصاف المرأة.
ومع ذلك، فلا أسرع من أفول نجم الفقاعات الطائرة، والتي تتبدد مع أول زمجرة للرياح وبالعودة إلى هذه السيرة النسائية الفريدة والمرتبطة بالهجرة النبوية، سيرة امرأة قامتها المديدة كما أسلفت أبهى وأشرف من سيرة حقوقيات اليوم، تتهاوى النماذج التي يتم تلميعها ونفخ قاماتها القزمية بسيليكون المهرجانات والميكروفونات، إذ تقارن بسيرتها المليئة بدفق إيمانها وعلمها وفقهها وبسالتها على مستوى الفضاء العام ويتعلق الأمر بأم سلمة هند بنت أمية بن المغيرة المخزومية، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما اختارها الله عز وجل لتكون قرينة أطهر الخلق إلا لما وقر في قلبها وسلوكها من سمات نادرة عجيبة نتوقف عندها في حلقة قادمة بإذن الله، ونحن نعلم علم اليقين أن الرياح اللواقح لا تفتأ تنسج خيوط الحياة الرسالية، غير عابئة بالفقاعات مهما انتفخت وانتفشت بالسيليكون أو بغيره.
ذة. فوزية حجبي