أ- مفهوم الأمة في القرآن :
الأمة مصطلح قرآني، وأصله اللغوي؛ أمه يؤمه أما، بمعنى : قصده، فالأَم (بفتح الهمز وتشديد الميم) هو : القصد إلى الشيء، والأمة من الإنسان أو الدواب : الجماعة،
قال الراغب في المفردات : “الأمة : كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد أو زمان أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا، وجمعها : أمم (بضم الهمزة)”، فمدار الأمة في لسان العرب على الجمع الموحد (بفتح الحاء)، وتطلق على الرجل الواحد المنفرد بخصلة قوية، والقائم مقام جماعة في حمل رسالة ما، كنبي الله إبراهيم عليه السلام المنفرد في عهده بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، فكان أسوة لكل من أتى بعده من المؤمنين الموحدين {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين}(النحل : 120).
وقد ورد مصطلح الأمة في القرآن دالا على: جماعة قائمة بنشر العلم، أو آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، وعلى الناس كلهم، وعلى منهج وطريق مسنون، وعلى فترة زمنية، وعلى أجناس من الحيوانات أو الطيور أو الحشرات.
وقد لاحظ أحد الباحثين “أن المعنى الاصطلاحي المتكامل للأمة يتضمن عناصر أربعة هي : العنصر البشري، العنصر الفكري، العنصر الاجتماعي، العنصر الزمني، وبذلك تكون الأمة في هذا التصور هي : (مجموعة من الناس تحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية، وتعيش طبقا لمبادئ هذه الرسالة، وتظل تحمل صفة -الأمة- مادامت تحمل هذه الصفات)”(1).
ومفهوم الأمة -في الثقافة الإسلامية- يضيق ويتسع حسب ما يجمع الأفراد والجماعة من رابط أو روابط؛ عرقية وقومية، أو قبلية، أو جغرافية مكانية، أو فكرية وعقدية، أو حضارية ور سالية… الخ
وأمم الأرض أصلها واحد نسبا ودينا، يجمعها أصل واحد، وعقيدة واحدة موحدة، فآدم أبوها جميعا والتوحيد عقيدتها، وأمة التوحيد هي التي سماها إبراهيم عليه السلام “الأمة المسلمة”، كما في قوله تعالى : {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}(البقرة :127).
لكن الناس اختلفوا وانحرفوا عن نهج التوحيد واتبعوا سبل الشيطان فتفرقوا أمما شتى تبعا لروابط الأجناس، والأعراق، والقوميات، والقبليات، وقد اقتضت حكمة الله تعالى، أن يبعث في كل أمة رسولا يرد الناس إلى دين التوحيد والتوحد، مصداقا لقوله تعالى : {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}(البقرة: 211).
وبذلك فأتباع الرسل عليهم السلام يكونون في النهاية أمة واحدة، لقوله تعالى : {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون}(المومنون : 53- 54).
وقد جاءت رسالة الإسلام على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة لرسالة الأنبياء السابقين، لتوحد الأمة من جديد على دين التوحيد، فكانت أمته صلى الله عليه وسلم المسلمة -أمة الإجابة- هي الوارث الشرعي لرسالة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لأنها الأمة التي يجمعها دين الإسلام ويوحدها على عبادة الله الواحد الأحد، وعلى إمام واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، و على كتاب واحد، هو القرآن، وعلى قبلة واحدة، هي الكعبة المشرفة .
ب- مقومات بناء الأمة المتحضرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد سبق القول إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم سار على نهج أبيه إبراهيم عليه السلام في وضع الأسس المادية والروحية للعمران القرآني (البشري والروحي) وبذل صلى الله عليه وسلم جهده في تبليغ رسالته وفي بناء الأمة المسلمة القوية والمتحضرة من خلال البناء العقدي والتربوي للإنسان المسلم، وحيث إن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كان منهجا تربويا بالدرجة الأولى، فإنه لم يكن يهتم كثيرا بالتنظيمات وبناء هياكل الدولة ومؤسساتها -المتعارف عليها في الحضارة الحديثة- بقدر ما كان يهتم بتكوين المؤمنين وإعداد الرجال الذين سيبنون الأمة أفرادا ومؤسسات، حتى إن الواحد منهم قد يكون أمة وحده، أو مؤسسة بمفرده، وهو ما نقرأه في سير الصحابة وفي أدوارهم التاريخية لما كانوا بعوثا للقبائل العربية أو للأمم المجاورة للجزيرة العربية في مجالات: الدعوة و التعليم، والقضاء، والجهاد وغيرها،.
فيما يلي أهم المبادئ والأسس التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم وبنى عليها الأمة المسلمة القوية وحضارتها :
> العلم و التزكية لتحقيق الأمن الثقافي:
وذلك مصداقا لقوله تعالى : {هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجمعة : 2).
والمراد بالعلم في الآية علم الوحي الذي هو أصل العلوم، ويقوم على معرفة الله تعالى أولا، ثم معرفة الكون والإنسان ثانيا، ومعرفة العلاقات التي تربط الإنسان بخالقه، والتي تربطه بأخيه الإنسان، والتي تربطه بأشياء الكون وكل المخلوقات، وذلك على أساس عقيدة التوحيد بكل مقوماتها من : توحيد الله المعبود، وتوحيد الإمام المتبع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الغاية والهدف من الحياة وهو عبادة الله تعالى، وإعمار الأرض بالعدل والصلاح، ثم التربية على حب العلم والعمل وعلى الأخلاق الفاضلة، كل هذه مقومات تجعل الأمة أمة واحدة قوية، متراصة باتحاد أفرادها، وأخوتهم، وتوادهم، وتراحمهم، وتعاونهم على أداء رسالة الاستخلاف و الشهادة على الناس..
> التشريع والقضاء لتحقيق العدل والأمن النفسي والاجتماعي:
وذلك ب: تشريع الأحكام المتعلقة بالحلال والحرام، والتحذير من الوقوع في المحرمات وما يترتب عليها من عقوبات دنيوية وأخروية، والحث على حفظ الأمانات وحماية حقوق الجيران والأقارب والشركاء وغيرهم، وتشريع الحدود والقصاص لردع المعتدين وزجرهم، لحماية دماء الناس وأعراضهم وأموالهم ثم بتنظيم القضاء لتطبيق الأحكام الشرعية وإقامة العدل بين الناس.
> إرساء دعائم الاقتصاد الإسلامي لتحقيق الأمن الغذائي :
وذلك ب: الحث على العمل والكسب الحلال، وتشريع الزكاة ونظام جبايتها وإنفاقها، والحث على الصدقات التطوعية، ثم بتمكين المزارعين من الأراضي الموات لإحيائها وإبقاء أهل المزارع فيها على أن يعطوا بعض ما تغله، إما خراجا أو زكاة، لبيت مال المسلمين..
> تشريع الجهاد لتحقيق الأمن السياسي والديني:
وذلك انطلاقا من بيان دواعي الجهاد بمختلف أنواعه، و أساليبه، وشروطه،وبتنظيم إجراءاته، وبإعداد المسلمين الأولين من المهاجرين والأنصار للجهاد، وهم الذين آمنوا بالله وبرسوله وصدقوه وعزروه ونصروه وجاهدوا في سبيل نصرة الإسلام فكانوا نواة الجيش الإسلامي الذي يحفظ بيضة الإسلام وحقوق المسلمين…
وبهذه الأسس وغيرها أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم دعائم الدولة أو الأمة المسملة، وقدكانت رسالته صلى الله عليه وسلم رسالة حضارية بكل المقاييس، “ومن تتبع سيرته صلى الله عليه وسلم ودعوته لمدة ثلاث وعشرين سنة التي أمضاها في الدعوة النبوية، يدرك أن حركته صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا حركة التأسيس والبناء لتشكيل حضارة وبناء نموذج حياتي جديد، يدين بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأقواله وأفعاله، وتقريرا ته، وشمائله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، هي القواعد التي بنى عليها المجتمع الإسلامي وعضد لبناته، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بوضع مخططات التغيير والبناء وبرامجه بل ساهم في البناء حتى وصل به إلى المرحلة التي أكمل فيها مهمة البلاغ المبين التي أمره بها الخالق عز وجل”(2).
كما بنى صلى الله عليه وسلم الإنسان الحضاري النموذج بمختلف صوره حيث “وفر الجو الملائم لبناء الإنسان الخليفة، والداعية، والعالم المبلغ، والعسكري، والسياسي، والمجاهد، والقاضي، والتاجر، والطبيب، والجمهور المسلم الواعي الذي يدافع عن الإسلام ويذود عنه في ساعات الخطر الداهم”(3).
وبذلك أعد الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان الاستخلاف الحضاري بحق، ممثلا في الصحابة ومن تبعهم بإحسان، أولئك الذين حملوا هم الرسالة النبوية وأسسوا المشروع القرآني الحضاري، بل دفعوا به إلى الأمام فأنتجوا الحضارة الإسلامية ذات الخصائص الفطرية المتوازنة والمتطابقة مع خطاب الوحي الإلهي.
ولكي تسترجع الأمة الإسلامية الحالية عزها ومكانتها الحضارية، يلزمها أن تتحقق بوصف الأمة المسلمة الموحدة، لا الأمة الإسلامية الممزقة إلى أمم، ولا يتم لها ذلك إلا بشروط أهمها :
- أن تتحقق بالعلم الشرعي وبالعلوم الكونية،
- أن تتحقق بالوحدة والتوحد على منهج النبوة،
- الاتصاف بالعدل والأخلاق الفاضلة،
- ثم القيام بتبليغ رسالة الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبذلك تستحق ألقاب؛ الخيرية، والوسطية، والشهادة على الناس، التي وصفت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، في القرآن وتلكم هي رسالة الأمة الحضارية في الكون.
د. محمد البوزي
——–
1- الدكتور ماجد عرسان الكيلاني (إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها) كتاب الأمة الثلاثون صفر 1412ه- ص: 20.
2- ص 43 المنهج النبوي والتغيير الحضاري برغوث بتصرف.
3- نفسه ص :142.