أزمة التربية في مجتمعنا


تــقــديــــــم :

لا أحسب أن هناك موضوعاً يشغل لبّ جل الآباء والأمهات مثل التربية في هذا الزمن الذي رُزئت فيه الأمة بأبشع إفرازات الحضارة الغربية، ولذلك فليس في تقديري أنه من التهويل والمبالغة أن نصف حالنا مع التربية بأنه أزمة تربوية حقيقية!

ليس هناك شك في أن المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته مسؤول عن تربية أبنائه، وأنه يتحمل تبعات تلك التربية، وأنه كذلك المستفيد الأول من نجاحه في تربيتهم وأنه -في الوقت نفسه- الخاسر الأكبر من إخفاقهم. ولكن ما هو المجتمع؟ وكيف نمسك بزمام المسؤولية المهملة في تبعات المجتمع المعاصر لنلقي باللائمة على من قصّر في دوره تجاه التربية؟

البحث عن إجابة لمثل هذا السؤال سيقودنا حتما إلى الدخول في حلقة مفرغة؛ حيث إن البيت والشارع والمسجد والمدرسة والإعلام، بل والدولة بكافة قطاعاتها تشترك في المسؤولية، وتتحمل التقصير الناتج عن ضعف القيام بمهامها، ولكن كل طرف يلقي بالمسؤولية الكبرى عن الإخفاق أو التقصير على الأطراف الأخرى. وهذا في تقديري هو جوهر أزمتنا التربوية!

بعض من ملامح أزمة التربية في مجتمعاتنا :

لو أردنا الوقوف عند ملامح هذه الأزمة لقلنا:

- أولا إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني من إشكالية مترسخة ساهمت المتغيرات الحديثة في جعلها سمة لبعض المجتمعات التي صاغت -ربما دون وعي منها- منظومتها الاجتماعية وفقاً لتك المتغيرات، ونتج عن ذلك مزيج متهالك أنتج بناءً ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً هزيلاً لا يستطيع الصمود أمام تحدّياته المحلية، فضلاً عن التحديات العالمية الكبرى..

- ثانيا ضعف القدرة على استشعار المسؤوليات الملقاة على عواتقنا، بل وانعدام الرغبة في ذلك. وبهذا أصبح كثير من أفراد مجتمعاتنا يجيدون فناً قلّما يتقنه غيرهم، ألا وهو تبرير التقصير وإلقاء اللوم في ذلك على الآخرين!.. هذه الحالة النفسية التي تكوّنت في العقل الجمعي ثم تجذّرت بعد بضعة عقود من الإهمال التربوي تتزايد حدّتها اليوم، وهي ناتجة عن ظروف مختلفة ومتجدّدة لم تحظ باهتمام تربوي كافٍ على المستوى التطبيقي. ربما يكون الجانب التنظيري لهذه القضية شغل كثيرين عن نقل تلك المهمة إلى حيز التنفيذ ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمؤسسات التعليمية العليا..

ولكوني لست متفائلاً بأن توكل مثل هذه المهمات الحيوية إلى مؤسسات ضعيفة الصلة بأبنائنا وبناتنا في هذا الزمن المتأزم بالمتغيرات لتتولى المسؤولية وحدها -أقول وحدها!- فإني أرى أن نستثمر بجدية في برامج التربية المنزلية التي يقوم عليها الآباء والأمهات، وربما الأقارب وذلك قصد تحقيق أهدافنا المنشودة..

من المعلوم أن الأسرة هي حلقة مركزية في تماسك نظام الاجتماع الإسلامي، ولأهميتها الفائقة، ووظيفتها الحساسة، شرع الإسلام قوانين تفصيلية دقيقة تنظم كافة العلاقات في داخلها. كما أن غياب الأسرة -أي تفكك علاقات التماسك في داخلها- يؤدي إلى خلخلة هذا النظام، والتجربة الغربية المعاصرة خير شاهد على هذا الأمر..

إن نتائج التربية المنزلية التي نباشرها بأنفسنا آباءً وأمهات سوف تكون -بإذن الله تعالى- اللبنة الأولى وحجر الأساس لتفعيل بقية قطاعات المجتمع ليُبنى عليها ما يمكن أن يكون برنامجاً تربوياً متكاملاً، لاسيما في ظل تزايد المسؤوليات التربوية التي تضطلع بها القطاعات التربوية خارج نطاق المنزل والأسرة. وضعف القيام بهذه المسؤولية -في تقديري- هو مكمن الخلل الذي نشأت عنه أزمتنا التربوية المعاصرة التي جعلت بعض المؤثرات التي يتعرض لها أبناؤنا لفترة قصيرة تجرّهم إلى الهاوية بشكل يشابه فعل السحر فيهم.

- ثالثا التخلص من الموروث التربوي الخاطئ، و”الثورة” على الأنماط التربوية غير السليمة: لا يكفي أن تكون الرغبة صادقة في تربية أبناء صالحين ما لم يكن الآباء والأمهات على وعي بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم وأهمية استجابتهم لمتطلبات التربية الصحيحة والصالحة؛ إذ إن كثيراً منهم يربي أبناءه بالطريقة نفسها التي ربّاه بها والداه ولو كانت خاطئة. فبعضهم تربّى على الضرب والقسوة وربما التهديد بالطرد من المنزل، وكان هذا الأسلوب مجدياً معه في زمن لم يكن أصحاب السوء مستعدين لتلقّفه وجره معهم إلى مهالك أعظم وأطم، كما هو الحال الآن!.. لذلك فإن الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتجرأ على القيام بها هي التخلص من الموروث التربوي غير الصحيح وغير المناسب، و”الثورة” على الأنماط التربوية الشائعة شيوعا غير صحيح ولا سليم والتي لا تكرس إلا التمرد والعصيان والحقد والكراهية والعنف المضاد، أو تكرس -ربما كردة فعل على الأولى- الكسل والاتكالية، ونستبدل بها أنماطاً تشجع على الإيمان بالله والسلوك القويم القائم على التعاون والطاعة والثقة بالنفس والمبادرة. وهذه “الثورة” ليس لها مكان إلا دواخل أنفسنا، حيث ننظر في أخطائنا بمنظار صاف وصادق يرتجي الناظر من خلاله تشخيص الخطأ، ثم الاعتراف به، ثم البحث عن ناجع علاج له.

خــــلاصــة :

إن برامج التربية المنزلية ينبغي أن تنبع القناعة بها قبل أن تُطبق، وهذه القضية بحاجة إلى أن تكون من هموم الآباء والأمهات على اختلاف مستوياتهم لا يغفلون عنها حتى نستطيع الخروج من النفق المظلم الذي دخلناه ثم اعتقدنا أنه العالم الذي لا يمكن تغييره..

ولعل الله تعالى أن ييسر من أهل العلم والتجربة والحماس من يساهم في وضع لبنات عملية أصيلة تساهم في تأسيس برامج التربية المنزلية، أو برامج التربية داخل الأسرة، التي نؤمل عليها توجيه الأمة نحو المستوى الذي تطمح في الوصول إليه في وقت هي بأمس الحاجة إلى مقاومة المؤثرات التي تكتسحها دون هوادة؛فهذه المهمة أكبر من أن يتناولها فرد أو مؤسسة بمفردها؛ إذ لا بد من تكاثف الجهود وتصحيح بعضها بعضاً عند وقوع بعض الأخطاء التي لابد من وجودها في مشروع ضخم بهذا الحجم..

إن الأسرة هي جوهر نظام المناعة في المجتمع، والتربية داخل هذه المؤسسة هي مركز ومنطلق التغيير الحضاري المنشود والباب الأول الذي يجب على دعاة الإصلاح أن يدخلوا منه قبل غيره من الأبواب الأخرى! الأسرة بنظام القيم والعلاقات بين الآباء والأبناء والحلال والحرام في داخلها ودور المرأة ورسالتها في التربية والرعاية.. هي أساس تماسك الاجتماع الإسلامي وهي ما ينبغي التشدد في المحافظة عليه، ويجب ألا يسمح باختراقه تحت أي ذريعة أو مبررات.. ولهذا نقول أنه لن تقوم للمجتمع قائمة إذا كانت الأسرة فيه منحلة وغير قائمة المعالم والأُسس على تقوى من الله ورضوان..

ذ. محمد بوهو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>