وقت الفراغ تحريف في المفهوم وانحراف في الوظيفة


يشكل وقت الفراغ فسحة مهمة بالنسبة للإنسان ليستريح من مشقة الحياة وينظر إلى الوجود نظرة أخرى غير نظرة الكسب والعمل. وطالما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قبل نزول الوحي يقتطع من حياته فسحة يتفرغ فيها داخل غار حراء يتأمل هذا الكون، نظرة تسائل الجوانب الجمالية التي تجعل هذا الكون متسقا ومنتظما، وطالما كان يستقطع من وقته زمنا لصالح أزواجه وأبنائه. وبهذا المعنى فالأصل في وقت الفراغ هو الإعمار بجوانب أخرى غير جوانب العمل والكد. لكننا اليوم نلاحظ تحريفا في معنى وقت الفراغ، الذي أصبح يشكل فسحة لتعميق الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية الإسلامية، والتي تتلخص في جعل الإنسان المسلم تابعا قابلا للتحكم فيه والسيطرة عليه. لذلك فهذا الموقف الذي لا ينفصل عن الحياة اليومية للإنسان المسلم يتطلب وقفة تأملية قلما حضرت في المشاريع الفكري العربية، إلا مع مفكرين من طينة الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، الذي كان واعيا بهذه المسألة انطلاقا من تغلغله في مجريات الحياة اليومية للإنسان العربي وجزئياتها التي تتلخص في كونها أصبحت حياة استهلاكية لا غير. ليكون الهدر الإنساني هو النتيجة النفسية الحتمية لمثل هذه الحياة. كيف يساهم إذا وقت الفراغ في تشكيل هذه الصورة؟ وما هي تجليات هذه التبعية؟.

علمنة المفهوم

لم يعد وقت الفراغ بتلك الفسحة التعبدية، سواء في صيغة أداء الشعائر، أو في صيغة صلة الرحم وإعطاء الإنسان فرصة للتواصل مع الأسرة والعائلة . وهذا التغير في المفهوم جاء نتيجة لتغلغل النموذج العلماني في الكيان الإسلامي، وذلك وفق صيغة إجرائية متجلية في العولمة، فتحولت الأعياد تدريجيا من وقت مقدس إلى وقت للعائلة، ثم إلى وقت فراغ. والهدف من هذا التغيير هو تحييد حياة الإنسان  وفصلها عن كل القيم الأخلاقية، وإخضاعها لقانون العرض والطلب، وبالتالي تحويل المجتمعات إلى نماذج استهلاكية خاضعة لقوانين يحددها النموذج الغربي. من هنا اتسعت رقعة وقت الفراغ وشملت العطل والمناسبات الدينية والوطنية أيضا، فتراجعت التجربة التأملية التعبدية الجمالية لدى الإنسان المسلم في مقابل تضخم جوانب أخرى، وظهرت مؤسسات أخرى حلت محل الأسرة. يكفي أن نتأمل مثالا بسيطا حيا داخل الأسرة المغربية لنتعرف على عمق الأزمة:حينما ينقطع التيار الكهربائي في مدينة معينة، نجد أن أفراد كل أسرة ملتفين حول نموذج بسيط للإنارة( شمعة مثلا) ليهربوا من سطوة الظلام التي اجتاحت المدينة فجأة، لكن ما يهربهم في الواقع هو ذلك الجو من الألفة وتبادل أطراف الحديث والابتسامات ومناقشة مختلف المشاكل، لكن سرعان ما يعود التيار الكهربائي لينصرف الأب نحو المقهى، والأم نحو المسلسلات التلفزيونية،والابن نحو شبكات التواصل الافتراضي، لينجلي مشهد التواصل الواقعي.

تأثير وسائل الإعلام

بهذا المعنى الذي أخذه وقت الفراغ، أصبح يشكل زمنا واسعا للانصراف إلى وسائل الإعلام خصوصا المرئية المعلوماتية منها. لهذا السبب كان من الطبيعي أن تشكل هذه الوسائل الآلية المثلى لعلمنة حياة الإنسان وعولمته وفق نموذج معين هو نموذج العلمانية الشاملة. فأغلب وسائل الإعلام لا تتوانى مع دخول عطلة الصيف، والمناسبات الدينية عن التسابق نحو مجموعة من البرامج والمهرجانات التي تفصل الإنسان عن كل شكل يجعل منه إنسانا فاعلا، نشيطا داخل المجتمع، خصوصا فيما يتعلق ببرامج النجومية التي توهم بالشهرة السريعة. مستغلة في ذلك قطاعات حيوية من التركيبة (النفسية) السيكولوجية للإنسان والتي يشكل قطاع اللذة العصب الذي يجمعها. وقد لعبت النماذج العلمانية كثيرا على هذا الوتر الذي يرتبط أكثر بأوقات الفراغ والعطل. ويظهر تأثير هذا القطاع في تكوين صورة جذابة عن إمكانية تحقيق الذات خارج الحدود الإنسانية والأخلاقية، ومن خلال التحرر من القيم المتجاوزة، لتبدأ وسائل الإعلام بتزويد الإنسان المسلم بشتى أنواع الشرائط السينمائية المتعلقة بالعنف، والتي تعكس إرادة القوة التي تحكم الإنسان الغربي، والجنس الذي يتم تحييده وجعله ممارسة يومية لا علاقة لها بالحكم على الإنسان، وهذا ما يتبدى في حياة الشواطئ. كل وسائل التسلية أو بالأحرى التلهية هذه، تقوم تحت شعار إحساس عميق في الإنسان هو تحقيق السعادة

كل الوسائل الترفيهية التي تم الحديث عنها هي تجل من تجليات البحث الدائم عن السعادة. هذه الأخيرة التي النماذج العلمانية -مستعينة بوسائل الإعلام- في ما هو جسدي ومادي وتقدمها في صورة نمط استهلاكي محض يقوم بتنميط الرغبات والأحلام، ويتجه مباشرة نحو سلوك الإنسان الذي يصبح قائما على الانجاز والنجاحفقط في مقابل تراجع التجربة التأملية الجمالية

الهدر الإنساني نتيجة نفسية حتمية

وقت الفراغ بالنمط الذي أوردناه يصبح ثغرة واسعة لهدر الوعي الإنساني، خصوصا فيما يتعلق بالشباب، باعتبار هذه الشريحة أكثر ميلا نحو الاستهلاك. أما فيما يتعلق بالهدر فهو نتيجة نفسية لنمذجة الإنسان وتنميطه وإلغاء حقه في الإبداع باعتماد آليتين نفسيتين متجليتين في التلاعب بالعقول وإدارة الإدراك، عن طريق برامج تلفيزيونية تقوم على الإثارة الحسية الآنية تدفع الشباب إلى البقاء في مستوى الرغبة  والمتعة والإثارة، ويبتعد عن عالم الأفكار والتساؤل، والتأمل الذي يعطيه دورا نشيطا في قيادة أمور الحياة. وهذا بعينه هو التهميش وهدر الطاقات في فخ الإلهاء والتخدير، واستبدال الأهداف النبيلة بواقع مرير.

من كل ما سبق يتضح أن ما نسميه في أدبياتنا اليومية بوقت الفراغ يشكل وقتا مليئا بالعمل بالنسبة لغيرنا، العمل الذي يقوم على عرقلة كل نهضة قد تلغي السيطرة والهيمنة الغربية عن طريق أشكال مختلفة من الاستعمار الثقافي، الذي يعمل على تحييد القيم الأخلاقية عن الحياة الإنسانية بصفة عامة وليس فقط عن السياسة وهذا ما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة، التي تمزق الكيان العربي الإسلامي على مربط الاتباع والهدر، وهضم حقه في بناء نموذجه الإنساني الذي يختاره من المكونات الثقافية المتاحة له.

ذ. عبد الصمد أفقير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>