مواقف وأحوال – من ألواح يحفظ فيها القرآن إلى أخشاب يقطع عليها “الكيف”!!!


ما زلت أذكر وأنا صغير أتعلم القرآن الكريم في أحد مسجدي قريتنا الصرامة الشديدة التي كان يتعامل بها الشيخ المحفظ سيدي مولاي إدريس العلوي رحمه الله، ومن ذلك أن محو الألواح لا يكون إلا في المكان المخصص لذلك، وكل من محا لوحه في مكان آخر عوقب عقابا شديدا، بحجة امتهان كلام الله، وكان القلم القصبي الذي نكتب به ألواحنا يمسح في شعورنا، وكانت الألواح التي نحفظ بها تعلق أو توضع على الجدران على الأقل، وكنا بين الحين والآخر نشرب قليلا من ماء “المحّاية” تبركا به لأنه ماء القرآن، وطلبا للفتح من الفتاح العليم، وكنت أرى الاحتفاء بحفاظ القرآن الكريم، خصوصا في محطتين كبيرتين: الوصول إلى البقرة الصغيرة(1)، ثم الوصول إلى البقرة الكبيرة، أما من أتم الحفظ بصفة رسمية فذلك سيد القوم، وعروس البلدة، يستدعي كل حفاظ القرآن من أبناء القرية ويمتحنونه، ثم يعترفون به حافظا لكتاب الله تعالى، ويحتفون به احتفاء زائدا،

أما إطعام الناس لمن يرغبون في حفظ القرآن الكريم من خارج القرية فأمر عجب، يطعمونهم وهم المقلون، وينفقون عليهم وهم المحتاجون، لكنها الرغبة في نشر القرآن، وتعظيم القرآن،

ثم عرفت بعد أن تلك عادتنا معشر المغاربة في الشمال والجنوب على حد سواء، وأننا متساوون في تعظيمنا للقرآن الكريم، وأن ما كنا نتعلمه في “الجامع” مما سبق ذكره كان يتعلمه أقراننا في باقي المناطق الأخرى، وأن أصل ذلك من عمل الصحابة والسلف كثير، منه ما أخرجه البيهقي في الشعب عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تعلم عمر رضي الله عنه البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا.

لكن هذه الصورة الجميلة والرائعة في تعظيمنا للقرآن الكريم -معشر المغاربة- ضعفت بشكل كبير، سواء على مستوى الإطعام والإنفاق، أو على مستوى الرغبة في الحفظ والانقطاع إلى التعلم.

ولقد دعاني إلى كتابة هذه الكلمات ما حدثني به صديق عزيز كان قد زار قريته قبل سنوات فوجد الألواح معلقة في جدران المسجد تشكو إلى الله هجران الأبناء، وعقوق الأحفاد، وتحكي عن زمن كان المسجد يعج بالصغار والكبار، وأبناء القرية والوافدين، وهم يتنافسون في حفظ كتاب الله العزيز، ففكر حفظه الله في إعادة الإحياء حيث يعيش هو الآن، ووفق لذلك، ثم خرج إلى قريته يريد إعادة البسمة لتلك الألواح بنقلها إلى الكتاب الذي يشرف عليه بمعية بعض الصالحين، فكانت المفاجأة الصادمة، والمصيبة الصاعقة على لسان إمام القرية: لقد أخذ الألواح بعض أهل القرية “يقطعون عليها الكيف”!! قال لي ذلك والألم يعتصر قلبه، والحسرة تملأ عينه، والأسف على زمن مضى سيل دمعه.

لم أزد على أن قلت له: ياحسرة على العباد، وإلى الله المشتكى، لكن يأخي مهمتنا أن نستنبت القرآن من جديد في كل مكان، ولنبدأ بأماكنه المعروفة، وقبائله المعهودة، والله متم نوره ولو كره الكافرون وأذنابهم وأعوانهم.

ذ. امحمد العمراوي

من علماء القرويين

amraui@yahoo.fr

—-

1-  سورة لقمان.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>