العطلة وعلاقتها بعبادة التفكر


يتهيأ كثير من الناس -في هذه الأيام- إلى أنواعٍ من الأسفار، تنقلهم من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، فتجد كل واحد منهم يفكر كيف وأين يقضي العطلة، فالإجازة تأتي بعد عام كامل من الجهد والعناء والضغوط وغيرها من الأمور النفسية التي يحتاج الإنسان بعدها إلى أخذ قسط من الراحة بعد كل ذلك. فالطالب بحاجة إلى تغيير الجو الدراسي الذي مكث فيه عاما كاملا بين الضغوط النفسية والذهنية، والموظف أيضا يحتاج إلى الراحة بعد أن كان طوال العام يعاني من الأعمال والواجبات المنوطة به، حتى أولياء الأمور يحتاجون إلى راحة بعد عناء المتابعة والاهتمام بأولادهم طيلة عام دراسي كامل. فالكل إذن بحاجة إلى الراحة.

إن الترويح عن النفس ضروري لأخذها بالجد بعد ذلك . يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : >إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم<، ويقول أيضاً: >روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلب إذا أكره عمي<، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه : (إني لأستجم قلبي باللهو المباح ليكون أقوى لي على الحق)، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا عليه وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال..). وهذا إمامهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: >ياحنظلة ساعة وساعة<(رواه مسلم).

وهذه الإجازة لا ينبغي على أي حال أن تكون عطلة عن العمل ، فليس في حياة المسلم  “عطلة”، وإنما سعي دائم وعمل مستمر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}(الانشقاق : 6). وقال أيضا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر :99). فعلى المسلم إذن أن يحسن استغلال فترة راحته خير استغلال، وليعلم أنه مسؤول عنها. وههنا أريد أن أشير إلى عبادة جليلة قد غفل عنهاالكثير، في السفر كما في الحضر، هي عبادة اندثرت وقليل جدا من يمارسها، مع أن القرآن الكريم يزخر بآيات كثيرة تحث عليها. إنها عبادة التفكر في آيات الله وآلائه وعظيم سلطانه، ذلك أن العطلة مظنة السفر، والسفر مظنة التفكر والاعتبار، خاصة إذا صاحبته نية صالحة. قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الالْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(آل عمران : 160- 191).

فالتفكر في خلق الله تعالى يوقف الإنسان على حقيقة بديعة، هي متانة الخلق والتدبير في كل مفردات الكون وأجزائه، وإن النظرة السليمة التي ينبغي أن نسلكها نحن المسلمين ليست التينقف بها عند ظواهر الأشياء، بل التي تحملنا من الظاهر المشهود إلى الباطن المحجوب، ومن معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق عز وجل، الذي أنشأه وأبدع له النظام الذي يسير عليه، ألم تر إلى قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ الَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}(الملك : 3- 4).

كما أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مليئة بمعاني التدبر والتفكر في صنع الله، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:(حبب إليه الخلاء) أي عبادة التأمل والتفكر في خلق الله تعالى.

كما حرص الصالحون على أن يتفكروا وهم يسبحون الله ويحمدونه و يكبرونه ويوحدونه، لأن الذكر والفكر يعمقان معرفة الله في القلب، فقد قال عمر بن عبد العزيز: “التأمل في نعم الله أفضل عبادة.” وقال بشر الحافي: “لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه”. وقال يوسف بن أسباط: “إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها بل لينظر بها إلى الآخرة”. ولنتأمل ما قاله الإمام ابن تيمية رحمه الله في أشد محنه : (ما يفعل أعدائي بي؟! إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن حبسوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة).

فالسائح إذن، وهو يقطع المسافات، ويجول في المساحات، يمر به وقت طويل يقضيه في التمتع والاستجمام، وهذا أمر حسن إذا كان في المباحات، بعيدا عن المحرمات، ولكن سيكون أحسن إذا قصد به التفكر في خلق الله، من خضرة وبحار وجبال، وصحار، وغابات، وسماوات بما فيها من نجوم وكواكب ، وكل ما يراه ويقع عليه البصر، وكل ما يلمس أو يدركه بالحواس، وكل ما يسمع ، وكل ما يهز القلب ويحرك الوجدان من مخلوقات لها حركات وسكنات منظمة تبعًا لسنن وقوانين ثابتة، وما تحتويه كل هذه الأشياء من علامات تدل على قدرة الله تبارك وتعالى. اقرأ قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. فَذَكِّرْ انَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ{(الغاشية : 17 -21). وأيضا: {قُلْ سِيرُوا فِي الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(العنكبوت :19) .وأيضا: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الارْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم :8).

وللتفكر في خلق الله وآلائه جملة من الفوائد منها :

1- التفكر يزيد الإيمان أكثر مما يزيده العمل، فالتفكر في خلق الله تعالى يزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى.

2- التفكر من أعمال القلب، وأعمال القلب أفضل من أعمال الجوارح .

3- التفكر يبعث على التواضع أمام عظمة الله تبارك وتعالى، ويبعث على حسن الظن بالله عز وجل.

4- التفكر يؤدي إلى العمل بآيات كثيرة من كتاب الله تعالى والعمل بسنة النبي صلى الله عليه و سلم.

5- التفكر يفتح آفاق العلم و الإيمان مما لم يكن معلوما قبل ذلك؛ لان الفكرة تجر الفكرة.

وهكذا يتبين أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة .. فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون.

فالسفر إذن، إذا كان بنية التعبد والتأمل في خلق الله أمر محمود مرغوب فيه، فكم من الأعمال تمر علينا، لا ينقصنا فيها إلا نية صادقة، حتى نجمع خير الدنيا والآخرة، فنحن نريدها عطلة في طاعة الله تعالى والتفكر في آلائه ونعمائه، ليس فيها امرأة تتبرج، أو شهوة تتهيج أو نزعة إلى الشر تتأجج.. عطلة في ما يرضي الله لا في ما يسخطه.. عطلة تبني الجسم وتغذي العقل وتروح عن النفس..

ذ. مبارك كريفي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>