افتتاحية -…واعملـوا  صـالحـا


العمل هو فعل في الواقع يحدث تغييرا وقد يكون خيرا وقد يكون شرا، كما يكون هذا الفعل يؤسس للخير ويجلبه، أو يقاوم الشر ويدفعه، كما يمكن أن يكون شرا، يؤسس للشر ويزاحم الخير ويمنعه. ولا يكون العمل إلا تغييرا في اتجاه الخير أو في اتجاه الشر، ولذلك كان عمل الخير بناء وعمرانا، وعمل الشر هدما وتخريبا وعدوانا.

والأصل في كل ما خلق الله أنه على الخير والصلاح حتى يحدث ما يغيره، فالفساد طارئ وعارض، إما من جهة الموجودات ذاتها من حيث قابليتها الذاتية والتكوينية للفساد والتحول، وإما من جهة فعل الإنسان الذي يمكن أن يقوم بفعل فيه نوع من التغيير من حالة الخير والصلاح إلى حالة الفساد أو العكس.

ولما كان كل ما خلق الله  يتسم بالخيرية والصلاح والإبداع والإتقان والجمال فكان مطلوبا من كل فعل أو عمل يحدثه الإنسان أن يكون على وزان الفعل الإلهي من حيث الصلاح والخير ودقة الإتقان والجمال في حدود الطاقة البشرية. وقد عرف العلماء العمل الصالح بقولهم : ما جمع الإخلاص والصواب، أي كان على مقتضى الشرع من حيث الإخلاص لله واتباع السنة، وكل فعل خرج عن هذين الشرطين كان إلى الفساد والإفساد أقرب، وبالذم والتحريم أحق.

ولما كان الإنسان هو المخلوق الوحيد في عالم الدنيا الذي منحه الله جل وعلا القدرة على الفعل والتأثير، وابتلاه بتكليفه بالعمل الصالح وإعمار الأرض بالخير، قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك:2)، ومنحه إلى جانب ذلك القدرة على الاختيار والحرية والإرادة بين الخير والشر، والصلاح والفساد، ورتب على ذلك الجزاء وفق قانون عادل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}(الزلزلة: 8- 9)

وجعل الله العمل الصالح ميزان الإعمار الصالح، والعمل الفاسد  السيئ معيار الإعمار الفاسد، فأمر بالأول ونهى عن الثاني، ورتب التفاضل بين الأفراد والأمم والشعوب على قانون التفاوت في مراتب الأعمال، فأهل العمل الخير يفضلون أصحاب العمل السيئ مطلقا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}(القلم:35- 36)، ويتفاضل أهل الخير بينهم في الدنيا والآخرة درجات، كما يتفاوت أهل الشر بينهم دركات.

وليس شيء مما يتقرب به إلى الله جل وعلا أفضل من  العمل الصالح سواء أكان عملا قلبيا(الإيمان بالله والاعتقاد بكل ما أخبر به)، أم كان عمل الجوارح والأعضاء (السلوك الحسن مع الخالق الرازق أولا ثم مع سائر خلق الله ثانيا:كل بحسب قدره وحكمه : الإنسان، فالحيوان، فالبيئة).

ولذلك فليس من شيء  يرفع من قدر الإنسان في الدنيا والآخرة أفضل من العمل الصالح، فبه رفعت الأنبياء درجات عليا {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات}(البقرة: 251)، وبه رفع الله شأن الناس والأقوام: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون}(الزخرف: 31)، بل إن سنن الله في التمكين والاستخلاف والإنجاء وسننه في الإهلاك والتعذيب مرتبطة بنوع العمل خيرا وشرا.فما أهلك الله قوما إلا لفساد تصوراتهم وسوء أفعالهم، وما أنجى عبدا ولا  قوما إلا لصلاحهم وإصلاحهم.

ولا تستحق أمة الإسلام وصف الخيرية والشهادة على الناس إلا بوفائها بشرط القيام بالعمل الصالح وإقامته في كل الميادين والمجالات، وعلى جميع المستويات الكلية والجزئية، الكبرى والصغرى، الفردية والجماعية.

فالأمة اليوم محتاجة إلى مضاعفة جهودها في أعمال الخير والبر ذات النفع العام والخاص، وأولى هذه الأعمال الصالحة بالاعتبار :

أولا: تربية الإنسان وبنائه بناء صحيحا وسليما، وتأهيله ليكون عنصرا إيجابيا وفاعلا للخير مبادرا وسباقا إليه، والمدخل إلى ذلك إصلاح منظومة التعليم على شروطه الإسلامية، التي اختلت موازينها في الأمة فحصل من الاضطراب والاعوجاج ما حصل وفات من الخير ما فات، فلابد من إعادة إقامة هذا الصرح على علوم الوحي أولا والتربية ثانيا، والنظر إلى علوم الإنسان وعلوم الطبيعة بميزان الوحي. ويوازي ما سبق إصلاح المنظومة الإعلامية لما أصبحت تمثله من أهمية وتأثير سلبا وإيجابا.

ثانيا: إقامة العمران البشري على مشاريع اقتصادية وسياسة صالحة ومصلحة، وإصلاح القضاء بما يحقق العدل ويضمن الحقوق والأمن والكرامة والاستقرار، فأعظم ما تبتلى به الشعوب فساد هذه المنظومات، وفسادها موذن بخراب العمران وفساد الاجتماع وتسارع عوامل الهلاك والفناء.

ثالثا: تفعيل فقه الموازنة بين الأعمال وفقه الأولويات لتحديد واجب الوقت، والعمل بالأولى والأهم والأنفع، والاشتغال بالخير والصلاح أولى من هدر الطاقات في دفع الشر والفساد، ولا يعدل عن هذه القاعدة إلا لضرورة، تقدر بقدرها وبشرطها، في ظرفها ومن أهلها.

ومما يأتي على رأس هذه الأولويات تربية الإنسان الصالح المصلح وحفظ ما فيه من خير وتنميته ورعاية مواهبه الخيرة وتأهيله ليكون خيرا صالحا مصلحا، فأهل الخير والصلاح والإصلاح هم صمام الأمان في الأمة، وهم جهاز المناعة في جسم الأمة. {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل صالحا ولا يشرك بعبادة  ربه أحدا}(الكهف:105).

رابعا: الحرص على ابتغاء الحلال في المأكل والمشرب والمنكح والمسكن، وتجنب  تحقير أي عمل فيه خير ولو قل، فما أحوجنا اليوم إلى الائتمار بما أمر الله به الرسل حين قال جل وعلا: “يا أيها الرسل كلوا من طيبات ما رزقناكم واعملوا صالحا”، فالطيبات من الله  رزق لعباده يجب أن يقابلها  العمل الصالح من العباد “واعملوا صالحا” أيا كان صغيرا أكبيرا، “ولا تحقرن من المعروف شيئا”.

والخلاصة فإن العمل الصالح المصلح محرك النهوض الحضاري، وركيزة كل خير، وما قصرت أمة في هذا النوع من العمل إلا وملأ الفساد وأهله الفراغ، ولنجعل واحدا من أهم شعاراتنا ومبادئنا في حياتنا الفردية والمؤسسية: {واعموا صالحا} نلتزمه أفرادا وجماعات، مؤسسات وإدارات وهيئات بإخلاص وصواب.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>