قـوانـيـن  الـقـرآن  الـكـريــم (16) – قانون الحب في الله والحب مع الله


بين يدي القانون

…لا زلنا في قوانين القرآن الكريم، والقانون اليوم قانون الحب: الحب في الله، والحب مع الله… العلماء قالوا: الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك. والإنسان كما تعلمون كائن من أرقى الكائنات، هو في الحقيقة عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك؛ غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب. وأي إنسان لا يجد رغبة في أن يُحِب، أو في أن يُحَب ليس من بني البشر، لأن الله عز وجل ركبه كعقل وكقلب، والله عز وجل خاطب عقله، وخاطب قلبه، وفي بعض الآيات خاطب عقله وقلبه معا في آية واحدة. قال تعالى : {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك}(الانفطار : 6- 7) خاطب قلبه أولا “ما غرك بربك الكريم” ثم خاطب عقله “الذي خلقك فسواك فعدلك”.

… بادئ ذي بدء يجب أن نعلم علم اليقين، أن الله عز وجل خلقنا ليسعدنا. قال تعالى : {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}(هود : 119) بل حينما قال الله عز وجل : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56) العبادة معرفة بالله أولا، وطاعة له ثانيا، وسعادة أبدية ثالثا؛ إذن خلقنا ليسعدنا.

شيء آخر، الله عز وجل هو خالقنا ومربينا ومسيرنا، ومشيئته نافذة فينا، كن فيكون، زُلْ فيزول، ومع ذلك ما أراد أبدا أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة قهر، أرادها أن تكون علاقة حب، فقال {يحبهم ويحبونه}(المائدة : 54) أرادك أن تأتيه طائعا، أرادك أن تأتيه بمبادرة منك، أرادك أن تحبه، لذلك قال بعضهم “من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه” بل من أعجب العجب أيضا أن تحبه ثم لا تطيعه. إذن حينما قال تعالى : {يحبهم ويحبونه}(المائدة : 54) أراد الله أن تكون المحبوبية هي العلاقةالوحيدة بينه وبين عباده، لذلك قال تعالى : {والذين آمنوا أشد حبا لله}(البقرة : 164).

من هنا ينطلق القرآن الكريم من التأكيد على الحب، ويرفض الإكراه فيقول الله عز وجل : {لا إكراه في الدين}(البقرة : 255) فإذا كان خالق السموات والأرض، ومن بيده كل شيء، ما أراد أن يكرهنا على اعتناق دينه، أفَيُعْقل لإنسان في الأرض أن يكره الخلق على دين معين؟! هذه القضية قضية حرية، والله عز وجل أعطانا الحرية ليثمن عملنا، ولا قيمة لعملنا إلا إذا كنا أصحاب إرادة حرة، لذلك قال بعض العلماء الكبار “لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملا لكان عجزا في القدرة. إن الله أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيرا، ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا” إذن أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة حب، لكن الحب في الأصللمن منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.

… نعمة الإيجاد {هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}(الإنسان : 1).

شيء آخر الله عز وجل أعطانا نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أمدنا بالهواء، بالماء، بالطعام، بالشراب؛ أكرمنا بأزواج، بأولاد؛ كل هذه النعم منحة من الله عز وجل، فلذلك أراد أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة حب، من هنا ورد في بعض الآثار “ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي” أي ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وبنعمائي كي يحبوني، وببلائي كي يخافوني.

الحب في الله عين التوحيد

… إلا أن الله سبحانه وتعالى ما قبل دعوى محبته إلا بالدليل فقال : {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم}(آل عمران :31).. إذن أن يدعي الإنسان محبة الله من دون دليل، هذه دعوى لا وزن لها إطلاقا عند الله.

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس شنيع

لو كانحبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب يطيع

لذلك الإعجاب السلبي بالدين، الموقف البعيد عن الالتزام، هذا لا يرفع الإنسان إلى طاعة الله، ولا إلى عبادته، لذلك قال تعالى : {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي لم يتحركوا، لم يلتزموا، لم يأخذوا موقعا {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}(الأنفال :72).

… كلمة “ولي الله” كلمة متداولة كثيرا، وقد فسرها بعض المفسرين تفسيرات غريبة وبعيدة عن حقيقتها، لكن التفسير القرآني لولي الله رائع وواضح جدا. قال تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}(يونس : 62- 63).

فروع محبة الله تعالى

… الآن هناك شيء دقيق هو أن حب الله هو الأصل، لكن هذا الأصل له فروع، فمحبة أنبياء الله جميعا الذين هم قمم البشر فرع من محبة الله، بل محبة سيد الأنبياء والمرسلين.. فرع آخر من فروع محبة الله عز وجل، بل محبة أصحاب رسول الله جميعا من دون استثناء فرع من محبة الله عز وجل، بل محبة المؤمنين من بعثة هذا النبي الكريم إلى نهاية الدوران فرع أيضا من محبة الله عز وجل، بل حب الأعمال الصالحة، حب خدمة الخلق، حب البذل والتضحية، حب بيوت الله، حب المساجد، حب تلاوة القرآن، هذه كلها فروع من محبة الله؛ لذلك قال العلماء “الحب في الله عين التوحيد”…

الحب مع الله عين الشرك

… اتضح من قبل أن الحب في الله عين التوحيد، ولكن الخطير أن الحب مع الله عين الشرك. هناك آية خطيرة جدا وهي قوله تعالى : {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}(التوبة : 24) يعني إذا أحببت جهة كائنة من كانت، هذه الجهة ليست على ما يرضي الله،بل هي ظالمة، أحببتها لمصلحة تحققها من هذا الحب، لمكسب أو لاتقاء شر، هذا الحب يعد عين الشرك، فالذي يحب إنسانا لا يطيع الله عز وجل، لأنه قوي أو غني، يحقق له مكاسب في الدنيا، هذا الحب سماه العلماء حبا مع الله، وهو عين الشرك، أي أنك إذا أحببت جهة لا ترضي الله، فالطريق إلى الله ليس سالكا، والدليل {فتربصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}(التوبة :24).

من هنا تتضح هذه الحقيقة من حديث شريف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) هنا الشاهد، قد يفهم من هذا الكلام أنك إذا سألت مليار وخمسمائة مليون مسلم: ألا تحب الله ورسوله أكثر من أي شيء؟ فالجواب نعم(1)، ليس هذا هو المعنى. أن يكون الله في قرآنه، والنبي عليه الصلاة والسلام في سنته أحب إليك من مصالحك المتوهمة القريبة، تضعها تحتقدمك، وتؤثر طاعة الله عز وجل، عندئذ تذوق حلاوة الإيمان التي من ذاقها عرفها، ومن ذاقها سعد بها في الدنيا والآخرة، ومن ذاقها قدم الغالي والرخيص والنفس والنفيس، وأصبح مؤمنا متألقا كما يرضي الله ورسوله.

… نحن مع موضوع خطير هو الحب في الله وهو عين التوحيد، والحب مع الله وهو عين الشرك. إذن أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصواب، وأن نجعل من حبنا أداة للتقرب من الله عز وجل، لا أن يكون الحب حجابا بيننا وبين الله.

إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…

——-

1- لعل فضيلة الأستاذ الدكتور حفظه الله أراد أن يقول “بلى”

لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>