في التفسير العلمي للقرآن الكريم


يقدّم القرآن الكريم حشداً من الحقائق والسنن والنواميس في مجالات العلم المختلفة: الفلك والجغرافيا والنبات والحيوان والإنسان في عدد واسع من المقاطع والآيات.

بعض الباحثين والمفسّرين المحدثين يلجأ إلى اعتماد أحد موقفين متضادين، يتكئُ أوّلهما كلية على معطيات العلم الحديث لتفسير تلك الآيات والوقوع ـ بالتالي ـ في خطأ منهجي يقوم على تحكيم الجزئي بالكليّ، والمتغيّر بالدائم، والنسبّي بالمطلق. فإذا ما حدث وأن تبدّلت الجزئيات والنسبيات العلمية، وهذا شأنها كما يؤكد العلماء أنفسهم، أدى ذلك إلى إحداث شرخ أو قلق ذهني، إزاء تلك الآيات التي فسّرت وفق مقولات لم يتح لها الدوام.

أما الموقف الثاني فيرفض كلّية الاعتماد على معطيات العلم الحديث تحسّباً من مصير كهذا، فيقع في مظنة التفريط.

والمنهج الأقرب إلى الصواب هو أن نتخذ موقفاً وسطاً كما علمنا كتاب الله نفسه، أن نتخذ في مختلف مجالات الفكر والحياة، فلا هو بالالتصاق التام بمعطيات العلم المتغيرة، ولا هو بالرفض الحاسم للتفسير بها.

إن الدارس أو المفسّر المعاصر عليه أن يُعْمل عقله وقدراته في مجال تخصّصه -إذا توفّرت لديه- لإدراك طبيعة العلاقة بين طرفي المعادلة: الآية القرآنية والمقولة العلمية، مستفيداً من جهة أخرى من الاتجاهات الحديثة التي راحت تزداد نضجاً في مجال التفسير القرآني تلك الاتجاهات التي تعتمد المفردات القرآنية نفسها ومنحنياتها البيانية لفهم مضامين النص القرآني فيما يعرف بالتفسير البياني أو الدلالي للقرآن الكريم والذي من شأنه أن يمنح المفسر ضمانات موضوعية لنشاطه تحميه من الإفراط أو التفريط في محاولة الوصول إلى الدلالات المقصودة للكلمات والتراكيب الجملية. ومن خلال هذا التوازن بين القدرة العلمية المتخصصـة، والقدرة التفسيرية (الدلالية أو البيانية) يمكن للدارس أن يتحرك للكشف عن الدلالات المقصودة للآيات العلمية في كتاب الله.

هنالك من الحقائق العلمية ما أصبح بمثابة قوانين نهائية، بل بداهات مسلّم بها لا تقبل نقضاً ولا تغيّراً، من مثل الدور الذي تلعبه الرياح في عملية الإمطار، ومن مثل الدور الذي تلعبه الجاذبية في حركة المجموعة الشمسية، ومن مثل المراحل التشريحية التي يمر بها الجنين، وتغيّر نسب المكونات الغازية قرباً أو بعداً عن سطح الأرض، ومن مثل المسافات الزمنية الهائلة بين الأجرام.. وغير هذه من الحقائق أمور كثيرة ما كان العربيّ يوم نزول القرآن يلّم بأبعادها العلمية، ومن ثم فإن تفسير الآيات القرآنية التي تناولت هذه الحقائق وأكدت عليها، كما أنه سيتكيء على بداهات علمية بالنسبة للقرون الأخيرة على الأقل، فإنه سيكشف في الوقت نفسه عن جانب من جوانب الإعجاز العديدة التي تضمّنها القرآن وأشار إليها.

وهنالك من الحقائق العلمية ما يحتمل أكثر من وجه، ولكن هذه الوجوه جميعاً إنما تدور في إطار واسع مرن ليس هناك من مانع في أن نحيل عليه آيات قرآنية أخرى لإدراك دلالاتهـا، من مثل تلك الآيات التي تؤكد على النظام المحكم الذي يمسك المعمار الكوني ويحميه من التفكك والضياع.

أما النظريات التي لا تزال موضوع أخذ وردّ، والتي لم تتبلور بعد كحقائق وقوانين وبداهات مسلّم بها، فإن بمقدور المفسّر أن يكون حذراً إزاءها، وألاّ يتكيء عليها إلاّ بمقدار ما يتيح له ذلك تسليط الضوء على جانب من جوانب المضمون الذي تحتويه الآية.

ليست سواء معطيات العلم التي تتغير باستمرار، ومن ثم فإن التعامل معها يجب أن يحاذر عن مظنة الارتباط الكامل أو الانفصال الكامل.

إن الارتباط الكامل سيمنع القدرة على الفهم والإدراك من التحرك في شتى الاتجاهات، والانفصال الكامل سيضعف هذه القدرة ويقيم أسلاكاً شائكة بين جانب من معطيات القرآن وبين الإنسان المعاصر.

إن الحقائق التي يعرضها القرآن والتي أريد منها أن تكون شواهد تقود الإنسان إلى الإيمان بالله الواحد القادر العالم المريد، تنتشر وتتوزّع على مساحة القرآن كلّه. ويجب أن نلاحظ أن ليس كل ما قدمه القرآن في هذا الحقل أو ذاك من حقول العلم العديدة أريد منه أن يكون إعجازاً للأجيال التالية، ولم يكن معروفاً -بالتالي- في عصر التنزيل. فثمة صنفان من الآيات نطالعهما في أي حقل من الحقول: صنف جاء على سبيل الإخبار ولفت الأنظار إلى خليقة الله وإبداعه في الكون والعالم والنفس، وهو يعرض لحقائق وظواهر وموجودات كانت معروفة في عصرها، كما هي معروفة في كل عصر. وصنف آخر تضمن إشارات لحقائق وسنن ونواميس علمية ما كانت معروفة في عصرها، وتولى العلم -بمرور الزمن- الكشف عنها وهي التي تسمى عادة بآيات الإعجاز العلمي للقرآن.

كما يجب أن نلاحظ أن ما قدمهالقرآن لا يمثل كشفاً بجميع الحقائق العلمية. فالقرآن -كما ذكرنا- ليس كتاباً علمياً وإنما هو يكتفي بالكشف عن بعض الحقائق والإشارة إلى بعضها الآخر، وتبقى حشود أخرى من الحقائق أكبر بكثير تركت للإنسان حرية الكشف عنـها، والمنهج الذي قدمه القرآن الكريم نفسه بهذا الصدد وهو منهج حسّي تجريبي يمثل في نهاية التحليل ضرورة إيمانية ملحّة لمواصلة هذه الكشوف.

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>