عبد اللطيف الحجامي رحمه الله رائد معماري من رواد نهضة أمتنا


انتقل إلى الرفيق الأعلى أخونا المعماري عبد اللطيف الحجامي يوم الثلاثاء 8 محرم 1432هـ الموافق لـ 14 دسمبر 2010م في سن يناهز ستا وخمسين سنة، بعد عناء مع مرض عضال دام أكثر من السنتين. وأحسب أن الأخ الزميل عبد اللطيف الحجامي، من جيل الصحوة، ممن أسهموا في إيقاظ الأمة والدعوة للإسلام في بلاده وفي الغرب أيضاً. وأرجو أن يكون ممن حققوا قول الله تعالى : {وَمَنْ احْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلِمِينَ}(فصّلت : 33). وهي مواصفات للمؤمنين الدعاة(1) أركز على الثالثة منهن لما لاحظنا عند الزميل اللطيف عبد اللطيف من إبراز لشخصيته الربانية ولو في أحرج المواقف معلنا على الدوام : {إِنَّنِي مِنَ المسلِمِينَ}.

وأحسب أن لأخينا عبد اللطيف أجر السالكين والواصلين إن شاء الله، لكونه أسهم في تعبيد الطريق، إذ أنه ترك بصماته في عدة مجالات، وبخاصة في مجال تخصصه. وهذا الذي سأعمل بحول الله على تبيانه في ما تبقى من هذه الكلمة.

لقد جعل الله لأخينا الفقيد نوراً يمشي به في الناس منذ عودته إلى بلده بعد تخرّجه في نهاية السبعينات. حيث أنه انضم إلينا مباشرة، مع الأخ الحبيب أحمد العراقي، لنشكل النواة الأولى المتخصصة في العمارة الحاملة لِهَمّ الإسلام. وكيف لا وهو سليل الدوحة النبوية الشريفة، وحفيد المجاهد الكبير الفذ سيدي محمد الحجامي الذي كان رائداً للجهاد ضد الوجود الاستعماري، وابن الشيخ الجليل العالم الفقيه الزاهد سيدي أحمد الحجامي رحمة الله عليهم جميعاً.

وكانت أول فرصة تضافرت فيها جهودنا في إطار هذه النواة، إعداد ورقة لمؤتمر مصيري نظمته اليونسكو مضطرةً في مدينة لاهور الباكستانية.

ذلك أنه، رحمه الله، رفض معنا إسقاط بنود الميثاق الدولي لحفظ النصب التذكارية والمواقع التاريخية وترميمها الذي أقره المؤتمر الدولي الثاني للمهندسين المعماريين والفنيين في الآثار التاريخية بالبندقية سنة 1964، والذي تمّ اعتماده في عام 1965(2).

وبالطبع، كان لفقيدنا دور فعال في إعداد مداخلة المؤتمر، المعدّة باللغة الفرنسية، والتي تركت آثارها العميقة بين الخبراء وبخاصة الباكستانيين منهم، الذين حاولوا معنا آنذاك صد ما كان يتهدد مدننا التاريخية.

ثم تقلد فقيدنا مسؤولية إدارة وكالة الحفاظ على مدينة فاس العتيقة، وبالرغم أنها كانت خلال عشر سنين دون صلاحيات أو إمكانيات كافية، إلا أنه استطاع، رحمه الله، أن يفتح من خلالها المجال للبحث في ميدان العمارة وتراثها، استوعبت الطلبة المغاربة والباحثين الأجانب. وبعد أحداث 1990، والتي اعتُبرت فاس مركزا لانطلاقتها، أفضت تفاعلات هذه الأحداث إلى إنشاء وكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس التي استمر أخونا عبد اللطيف رحمه الله، وهو في إدارتها، من الاستفادة من الطاقات المتوفرة حوله في إنشاء مختبر معتمد محليا وعالميا للدراسة المعمارية وتراثها.

كما شارك فقيدنا في إعداد البرنامج التكويني للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية التي أنشئت سنة 1980، حيث درس فيها منذ انطلاقتها، فكان أستاذاً نموذجياً يرافق الطلبة ويفتح لهم مجال السؤال والمعاينة لكل إشكالات العمارة، ميسّراً لهم البحث في المجالات المتنوّعة المرتبطة بها. واستمرت مسيرته في هذه المؤسسة التكوينية إلى أن عمل البعض على إقصائه من التدريس في منتصف التسعينات.

ثم بعدها ببضع سنين تم إبعاده ظلماً من الإشراف على وكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس. لكنه تابع مسيرته النيرة مؤطراً مشاريع كبرى في العمارة والتعمير، وفي حفظ بناءات ومواقع تاريخية وترميمها ورد الاعتبار لها، مع زملاء من المغرب وباقي البلاد العربية يقدرونه حق التقدير.

لقد أمضى حياته في مجال تخصصه، رحمه الله، لإحياء العمارة الإسلامية من خلال تراثها. مؤكداً أن تراث عمارة المسلمين يتميّز عن غيره بحيويته لكونه ذاكرة في الزمان والمكان، لارتباطه بثوابت الحضارة وتفاعلاتها المادية والمعنوية.

وقد كان فقيدنا مستوعباً للأبعاد المؤسسة لعمارة المسلمين لما تحمله من خطاب حضاري يُعبر عن هويتهم ما احتُرمت مبادئ الإسلام وتوجيهاته(3). ويتجلى دور أمثال فقيدنا عبد اللطيف، رحمه الله، فيما كان يحمل من هم في مجال تخصصه محاولاً جهده أن يمرر هذا الهم للطلبة والباحثين في المدرسة وفي الوكالة وفي كل مناسبة أتيحت له في الداخل والخارج. فقد كان بالفعل رائداً من رواد جيل الصحوة، حريصاً على أن تؤدي حضارة المسلمين من جديد رسالتها بين الأمم والحضارات، وتُحقق حضورَها في العالم بالفعل العمراني على أوسع نطاق وفق قدراتها الخاصّة، وتنجز حضورَها في العصر بالفعل التاريخي على أعمق وجه وفق قيمها الحية(4).

وتوافقاً لذلك، اجتهد رحمه الله في إطار تخصصه، على أن يعكس المعماري المسلم المعاصر هذا الحضور الحضاري معبراً ومعلناً عن هويته باعتزاز ومجسداً بلسان حاله أيضاً وعلى الدوام :{إِنَّنِي مِنَ المسلِمِينَ}.

لقد تميّز أخونا عبد اللطيف عن جلّ المعماريين المسلمين حالياً. ذلك أن غالبيتهم لا يعرفون المعلم محمد ابن الرامي التونسي مثلاً ولا عيسى بن موسى التطيلي الأندلسي ولا من أبدع العمارة قبلهما من أمثال الهياج بن مالك مخطط الكوفة أو التابعي حنّاش بن عبد الله الصنعاني(5)، في حين أن أمثال المعماريين الغربيين غير مجهولين لديهم.

فإذا تساءلنا عن معماري اليوم في بلاد المسلمين  :

< أي خطاب وأي أسلوب وَجَب عليه امتلاكه ؟

< من أين يستلهم أفكاره وتصوراته؟

< وما هو دوره في أوضاعنا الحالية وما هي رسالته؟

وجدنا أن الفقيد، رحمه الله، حاول جهده تجسيد أجوبة لهذه التساؤلات ضمن مشروع مجتمعي شامل، في ظروف تعتريها تيارات فكرية معاصرة في الميدان معتزة بما عند الغير، جاهلة لهويتها ومكونات حضارتنا(6).

ومن ثم، فقد حمل فقيدنا همّ تأسيس هذا المشروع الشامل الذي يتجاوز الشكلي إلى الجوهري، وعمل على اعتبار المقاصد في متطلّبات مهنته، وملاءمة هذه المتطلّبات مع المقاصد. كما تميّز رحمه الله بامتلاك رؤية إصلاحية ناصحة تتسم بالشمول وبمنهجية المقارنة في معرفة الذات الحضارية ومعرفة الغير. فقدّم رحمه الله مظهرا متميّزا للمعماري المسلم، مظهر المعماريِّ النصوحِ، المستشار، المعماري المربي، القريبِ من السكان والمعَضَّدِ بهم، المعماري المواطن، الفاعل من بين الفاعلين الآخرين في عالم الثقافة بحكم مهارته وعلمه وكفاءته.

ولئن فارقنا زميلنا عبد اللطيف الحجامي بجسده إلى جوار ربه، فإن روحه حاضرة معنا على الدوام بما حمله من هم رسالة المسلم الصادق في ميدان عمارة المسلمين. فلنعش على ما مات عليه، كل في ميدان تخصصه، لنضمن حياة أبدية سرمدية وصدقة جارية لا تنطفئ جدواها مع خروج أرواحنا.

اللهم تغمد أخانا عبد اللطيف الحجامي برحمتك التي وسعت كل شيء والتي هي خير مما يجمعون، واحشره في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجعله من رفقاء نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جنة النعيم، آمين.

والحمد لله رب العالمين

————-

1- لقد أفلح جيل الصحوة في إيقاظ الأمة وتوجيهها نحو نهضة وسطية تعطشت لها البشرية منذ دخلت في دهاليز حضارة الحداثة، وها هو الإسلام يدخل اليوم قلب الغرب الذي انتصب على الدوام وبإصرار لعدائه منذ ظهوره. وها هم مسؤولو الغرب يفقدون صوابهم لمـّا وجدوا هذا الدين بين ظهرانيهم، فبدؤوا ينعتونه بما ليس فيه ويروِّجون لذلك في أرجاء الأرض. وهم في الحقيقة يسهمون في لفت نظر البشرية جمعاء إلى وجود الإسلام من حيث لا يشعرون، جرياً لسنة الله تعالى التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وتحقيقاً لقوله جلّ وعلا : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء : 105).

2- بما أن هذا الميثاق أُقر في أوروبا لإعادة بناء ما خلّفته الحرب العالمية من دمار في مدنها التاريخية وترميمها، فقد بيّن فقيدنا، في إطار تلك النواة، عدم ملاءمة بنود ميثاق البندقية المذكور للحفاظ على العمارة والمدن التاريخية عند المسلمين عامة ومدينة فاس الأصيلة المقصودة بالبحث والدراسة آنذاك، على الخصوص. وهذا الأمر راجع لعدة اعتبارات، أهمّها أن فنون البناء وحرفه ما زالت قائمة عند المسلمين، خلافا لوضعية الغرب الذي تشكل فيه الميثاق والذي اندثرت فيه هذه الفنون والحرف. وقد تمّ التركيز في الورقة المعدة لمؤتمر لاهور على إبراز تميّز عمران المدينة الإسلامية وعمارتها وواقع تراثها الحي، مما جعل الحاجة ماسةً لإنشاء ميثاق يلائمها ويبعدها عن اعتماد المعاهدات والمواثيق الأخرى التي قد تؤدي إلى إتلاف التراث البشري الممثل في المهن الأصيلة والحرف المتصلة بها.

3- المفروض أن تكون العمارة ملتقى العلوم الدينية والإنسانية والتقنية والآداب والفلسفة والفكر، إذ أن لها رسالة ذات بُعدين اثنين :

1- يعبّر البعد الأول، الجوهري، عن الهوية الحضارية في البناء ؛

2- ويعبّر البعد الثاني، المادي، عن الفترة الزمنية التي تأسس فيها البناء، وعن انتسابه المحلي والقومي.

ولقد حملت العمارة هذه الرسالةَ المزدوِجةَ في إطار الحضارات السابقة بما يُعبّر عن البعدين المتكاملين للقيم. إلا أن الغربَ قدّم نشازاً منذ نهضته وما سمّاه بعصر التنوير، حيث انحصرت رسالة العمارة عنده في البعد الزمني وحده مقتصرةً على الجانب المتغيّر من القيم. وتّم بذلك، لأول مرة في تاريخ البشرية، تغييبُ البعدِ المعبرِ عن هوية العمارة الحضارية وتجريدها من قيمها الجوهرية، حيث اختُزلت رسالة العمارة، وما تقوم عليه من وظيفة ومتانة وجمال، في البعد المادي فقط والقيم المرتبطة به.

4- عموماً، فإن تحقـق الحضارة بالحضور في المكان هو نهـوضها بالفعل العمراني عـلى أوسع نطاق، كما أن تحققها بالحضور في الزمان هو نهوضها بالفعل التاريخي على أعمق وجه. وبما أن الوحي هو المرجع المحفوظ والمسدد للمسار الدائم للأمة ولو انحصرت مسيرة حضارتها، فإن طائفة من أمتنا غيرِ مبدلة قائمة على الحق تؤدي ما تطيقه من الشهود والحضور رغم غياب الفعلين على المستوى اللاّزم، “الفعل العمراني” و”الفعل التاريخي”.

5- نقل عبد الرحمان حجي في تاريخ الأندلس من الفتوحات إلى سقوط غرناطة (دار القلم، دمشق 1970) عن البلاذري والطبري، أن هذا التابعي هو مصمم مساجد الغرب الإسلامي ومنشِئها خلال الفتوحات، وهو من صنعاء الشام لا اليمن، شارك فيها بجانب رُفيع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وآخرين، ثم عبر مع موسى بن نصير جبل طارق. توفي رحمه الله سنة 100 هجرية بعد أن بنا جل مساجد إفريقية وشارك في بناء مسجد غرناطة الذي تحول فيما بعد إلى المسجد الجامع في المدينة، وبنى المسجد الكبير لألبريا، كما أنه صمم قبلة مسجد سرقسطة وحوّلها.

6- بيد أن المعماري هو قبل كل شيء رجلُ حضارة وجب أن يحمل قَلَمُه عند كل خط فكرة. فالمعماري يصنِّف العمارة ويفكر بالعمران. ما يسطره قلمه يحمل تصوراً لكونه يبدع العمارة ويصوغها حسب رؤيته. ولما كان الكاتب يكتب كلمة تحمل فلسفة ورؤية للعالم والمجتمع ، فإن المعماريَّ بدوره ينشأ عمراناً حاملاً لفلسفةٍ ولرؤيةٍ للعالم وللحياة، محورُها الإنسان… إن التقنية التي يملكها المعماري والشكل الذي ينتج منها، تخدم في الواقع فكرةً وتُسهِم في رؤيته للعالم وفي مشروعه للمجتمع.

أ. د. المعماري العربي بوعياد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>