تبارك الله الكريم العظيم الذي بيده الملك كله، المتصرف في الخلق كله، بما يشاء وكيف يشاء، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا سائل عما يفعله بخلقه، سبحانه وتعالى عما يشركون.
خلق سبحانه الموت والحياة، وأوجد الخلائق من العدم ليختبرهم ويقيم الحجة عليهم في أعمالهم، هل هي أعمال حسنة متقنة، بُذلت في سبيل تجويدها وتحقيقها قوتهم وطاقاتهم، أم أنها أعمال ضعيفة هزيلة خائبة؟ أم هي أعمال كثيرة لكنها سيئة وغير حسنة؟. لدقة هذا المعنى، فسر محمد بن عجلان “أحسن العمل” في قول الله عز وجل {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} : بخير العمل لا بأكثره؛ لأن العمل قد يكون كثيرا، لكنه لا صدق فيه ولا اتباع فلا تكون فيه الخيرية والبركة. وقد يكون العمل خالصا ومتبعا، ولكن لا إتقان له كما ينبغي.
من منطلق هذا الفهم المقاصدي للدين ولرسالة المهندسين، كان فقيدنا المهندس الفقيه عبد اللطيف الحجامي يعمل، ومن هذا المنطلق كان يفكر ويجتهد ويؤطر، ويربي ويشرف على مجموعات المهندسين والبنائين، بل من هذا المنطلق كان يصدر في حديثه ومذاكراته العلمية، وفي مناقشاته للأطروحات الجامعية.
فالأستاذ عبد اللطيف كان معروفا في أوساط المهندسين المعماريين المغاربة وغير المغاربة بدقة التكوين وسعة الأفق، والقدرة على الإقناع، والرغبة في جمع المهندسين على مشروع رسالي يبتدئ في حياتهم ولا ينتهي ولا يتوقف بعد مماتهم، ولذلك لم يكتف بالتدريس وإنما أتبع التدريس بالتأطير والإشراف والتدريب لعدد كبير من المهندسين وهذا لعمري هو حسن العمل والعمل الحسن، لان العبرة بالمقاصد والمعاني.
والأستاذ عبد اللطيف كان ينطلق في نظرته العمرانية من مفهوم البنيان في المنظومة الإسلامية، أسعفه في ذلك محيطه الأسري والاجتماعي، حيث كان يتلقى هذه المعاني عن أبيه العلامة الزاهد الفقيه أحمد الحجامي وأصهاره العلماء آل البوشيخي. فكان رحمه الله إذا تحدث عن العمارة تحدث عنها بما يحقق مقاصدها ويراعي واقعها ويحي رسالتها، وبذلك كان يستحضر أركانها الثلاثة:
< التنظيم والتناسق والانسجام في البنيان.
< التراص والتدعيم القوي للبناء.
< مراعاة الفقه الشرعي لعملية البناء في علاقاته الجوارية والإيمانية.
وهذا الفهم الدقيق للعمارة الإسلامية مع مراعاة تكييفها وتنزيلها في الواقع المعاصر يدل على براعة الرجل رحمه الله وقوته ورساليته.
فمراعاة هذه الأركان الثلاثة يجعل الهندسة المعمارية الإسلامية تكتسب الصبغة العصرية، ولا يفقدها أشكالها الهندسية الفنية المعاصرة ولا يحصرها في الطابع المادي أو التبعي للرؤية الغربية.
فتنظيم البناء وتناسقه، وانسجامه، واتساع دروبه وأزقته وشوارعه، ومراعاة إمداده الروحي والتربوي في دقة تخطيط مساجده وما يتفرع عنها من منافع مادية واجتماعية كالحوانيت والمعامل وأوراش العمل بالمدينة. هذا الركن الأساس في العمارة الإسلامية يلاحظ غيابه في المدن العصرية، لأنها أسست إما في مرحلة الاستعمار أو بعد خروج المستعمر. ولذلك كان المرحوم يركز دائما على ضرورة الانطلاق من منظومتنا الإسلامية والاستفادة من تجاربنا العمرانية أولا، ثم الاستفادة من تجارب ونظريات الآخرين ما لم تتعارض مع أصولنا وثوابتنا وقيمنا.
وأما الركن الثاني الخاص بالتراص والتدعيم في البناء فهو ينطلق فيه من الحديث الصحيح : >المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا< فلأصل في البنيان التراص، ومن دلالات التراص : التلاحم والتلاصق والانضمام والإحكام وانعدام الفرجة والخلل، وبذلك كان يبين لطلبته والمهتمين بالبناء والعمران أن إحكام البناء وترابط أجزائه كان توجها طبيعيا في العمارة الإسلامية حيث شبه المؤمنون في تراص صفوفهم وتلاحمهم بالبناء الذي عادته أن يكون كذلك. وإلا ما عد بنيانا ؛ إذ طبيعته تلاحم لبنه والتحامها بما يجمع بينها ويؤلف بين عناصرها، ويحقق استقامتها واتساقها، ويجعل منها مثلا لصفوف المؤمنين ونموذجا لجمع كلمتهم ووحدة صفوفهم.
وهذا الركن بالذات هو الذي دفع الحجامي رحمه الله إلى الإسراع بإنقاذ مدينة فاس، فبادر إلى صيانة وترميم وتدعيم ما انخرم أو انهدم أو اختل أو تآكل من البناء، واستعان في ذلك بالبنائين القدامى وهيأ لذلك طاقما هندسيا معماريا من الشباب النشيط المتدرب – هم الذين تولوا متابعة المشروع بعده – يأخذون الدروس النظرية عن أستاذهم عبد اللطيف ويتعلمون الدروس العملية عن البنائين البارعين، فيجمعون ما بين النظري والتطبيقي.
وأما الركن الثالث وهو الخاص بمراعاة الفقه الشرعي لعملية البناء. فهذا الركن أساس الهندسة الإسلامية الحضارية، لأن البناء شأنه شأن أمور الحياة الأخرى، لا يمكنه أن يكون وفق مقاصد الشريعة إلا إذا بنيت أحكامه عليها. فالبنيان له علاقة بحياة الناس واستقرارهم، والناس ليسوا ملكا لأنفسهم فهم ملك لأمتهم وبذلك يكون البنيان كله ملكا للأمة جميعا. فتكون هندسته ونظامه وما يقوم عليه، والعلاقات المترتبة عنه. كل ذلك لا بد أن يخضع لنظام الشرع الذي يراعي المصالح العامة والخاصة ويجلب المنافع ويدفع المضار عن الأمة كلها. وإذا أضيف هذا إلى العلاقات الجوارية وما يترتب عنها من مشاحات في الفضاءات والحيطان المتجاورة والاستحقاقات المتنازع عليها فيما بينهم مثل الهواء الأعلى والأسفل وفي استحقاق الطرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات الخاصة بها. فالحاجة إذا لفقه البنيان وفق مقاصد الشرع وأحكامه أمر ضروري لكل مهندس وبناء.
وهذا الفقه الشرعي يسر الله لفقيدنا عبد اللطيف أن يتلقى الكثير منه عن أبيه الفقيه، فجمع إلى جانب التكوين الهندسي تكوينا شرعيا مهما مكنه من بناء تصور علمي منهجي يؤسس عليه مشروعه الرسالي الذي ظهرت آثاره في محاضراته ومناقشاته وأوراشه ومشاركاته في الندوات الدولية الوطنية.
فرحم الله المهندس الفقيه المقاصدي الرسالي، الذي ألف عددا كثيرا من المهندسين وزرع كثيرا من الأفكار والتصورات الهندسية الحضارية في بلدنا الحبيب وفي بلدان إسلامية كثيرة، وإن الأمل معقود على الله ثم على طلبته المهندسين وعلى رأسهم ولده، ليواصلوا المشوار ويجمعوا ما تناثر من درر تصوراته وتوجيهاته.
أ.د عبد الله الهلالي كلية الآداب ظهر المهراز -فاس