المهندس عبد اللطيف الحجامي رحمه الله رجــل فـقـدنــاه


(عبد اللطيف) رحمه الله، اسم على مسمى، فلقد تجَلّت الصفة الربانية التي عُبِّد بها لله عز وجل في كل أعماله وتصرفاته، ومن ثم كان لطيفا في كل شيء.

كان لطيفا في ابتسامته لُطْفاً يتمثل مغزى الحديث النبوي >تبسّمك في وجه أخيك صدقة<، وبذلك كان رحمه الله طلق المحيا منشرح الصدر، يبتسم إذا تكلم، ويبتسم  إذا استمع، يبتسم إذا فرح، ويبتسم إذا غضب، يبتسم وهو جالس على المكتب في الإدارة، ويبتسم وهو يزاول عمله هنا وهناك، ويبتسم وهو يحادثك على الرصيف أو الشارع… كان رحمه الله تعالى ممتلئا بشاشة ولطفاً.

كان لطيفا في هيئته وهندامه، أنيقا في شكله ومظهره، يُشعرك بهيئته وهندامه دائما بأنه رجل الإدارة والعمل، حتى وهو خارج الإدارة والعمل، ويشعرك يهيئته وهندامه أنه دائما في العمل حتى ولو كان في عطلة عن العمل… لقد كان رحمه الله رجل الجد والعمل،

كان لطيفا في معيشته وحياته، لم يعش يوماً حياة المترفين، رغم أنه كان بإمكانه أن يفعل ذلك وأن يصل إلى ذلك لكنه كان قنوعاً راضيا بما قسمه الله تعالى له من الحلال.

كم مرة سافرت معه فلم يكن غداؤه يزيد عن شيء من السردين المعلب وكوب من الحليب، فأقول له : إن القدماء قد قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فيجيبني بابتسامته المعهودة : هذا قياس غير صحيح، والأطباء ينكرون ذلك.. وكم من مرة وصل الليل بالنهار دون أن يأكل أي شيء، وفي أحسن الأحوال كان يشرب كوبا من الماء مُحلى بشيء من السكر حتى إنك لتتخيل وكأنه مضرب عن الطعام.. طبعا لم يكن يفعل ذلك بُخلا ولكن الإيمان بالعمل وحب التفاني فيه والتضحية هو الذي لم يكن يسمح له بأن يجلس هانئا مرتاحاً من أجل أن يأكل كما تأكل المخلوقات الأخرى.. كان يرى أن الأكل، ومن ثم الدنيا، آخر شيء يمكن أن نشغل بالنا به.

حينما كان على رأس إدارة  إنقاذ مدينة فاس، كان رحمه الله فعلا يريد أن ينقذ هذه المدينة من الدمار والاندثار، ومن تلاعب اللاعبين وعبث العابثين وأصحاب المصالح الشخصية، فكان يصل الليل بالنهار دون تعب أو كلل، وحينما غادر إدارة الانقاذ سارَ بنفس الإيقاع مُتخذاً شعاره : العمل ولا شيء إلا العمل، فلذلك قلت إنه كان لطيفا في معيشته…

كان لطيفا في معاملاته وصِلاته، فلقد مكّنته مؤهلاته العلمية، ومكوّناته العملية بأن يربط صلاتٍ قوية وعلاقات متينة مع شخصيات نافذة من أصحاب القرار لكن لم يوظف في يوم من الأيام تلك الصّلات والعلاقات لغاية نفعية ذاتية، بل كان يعتبر ذلك صداقة من الصدقات التي قد  تربط الإنسان بكُبراء رجال الأعمال كما تربطه بعامل من العمال البسطاء، أو بشخصية سياسية نافذة، كما تربطه بموظف من الموظفين العادييين.

كان لطيفا في فِكْره وابداعه، ينظر إلى الأمور ببساطة، لكنها بساطة عميقة دقيقة تحليلية وجيهة، يُقدِّم لك الأمر العويص المعقّد في صورة بسيطة لطيفة تنسى معها أن الأمر كان معقداً بالشكل الذي تتصوره، ويحلِّل الظواهر والأوضاع بشكل تتيقن معَه أن ما قدمه لك هو عين الصواب، فقط لِلُطفه وبساطته.

أما الإبداع في مجال تخصصه فحدث ولا حرج، لقد كان لديه رحمه الله تصور حضاري في مجال الهندسة المعمارية، وكان -على صبره وسعة صدره- يتحسر على التفريط في ما لدينا من تراث حضاري في هذا الباب، كان يتحسر -وحق له ذلك- على التقليد الأعمى لتراث الغير دون أي وعي بخطورة التقليد، وفي المقابل كانت لديه اقتراحات إبداعية علمية عملية، بذل فيها كل طاقاته من أجل توصيلها إلى الطلبة حينما كان يدرسهم بالرباط، وبذل فيها مهجته وهو يحاول إحياء ذلك في فاس حينما كان على رأس إنقاذ المدينة، ثم بعد ذلك في المشاريع الكبرى على المستوى الدولي.

كان رحمه الله لطيفا في مواجهة المحن والإحن التي كانت تعترضه هنا وهناك، تلك المحن التي لو اعترضت الجبال الرواسي لتأثرت، ولكنه رحمه الله كان يواجهها بلطفه وصبره، وبأناته وحلمه، حتى يحولها إلى منح فيخرج منها صابراً محتسباً…

حدثني رحمه الله في مرضه الأخير عن بعض ما حصل له في السنوات الأخيرة من هذه المحن الكبرى، فقلت له : لعل همّ هذا الحدث هو الذي أثّر في صحتك، فأجابني بابتسامته اللطيفة : أبداً! وكيف يكون ذلك وأنا أعتبر ذلك من النوادر التي كلما تذكرتها أضحك مِلْء في.. ثم بدأ يضحك لكن بابتسامته المعهودة.

لقد كان عبد اللطيف رحمه الله رجلاً، مِلْء الفم واليد والجَنان، فقدناه ونحن أشد ما نكون أحوج إلى فكره ولطفه، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ورزق أهله وذويه الصبر، وجعل ذريته صالحة مصلحة لطيفة على نهج أبيها {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} فاللهم ألحقنا به مسلمين مؤمنين تائبين.

د. عبد الرحيم الرحموني كلية الآداب ظهر المهراز -فاس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>