عبد اللطيف الحجامي المهندس الرائد والطبيب المعلم


يحق لكل أمة أن تفتخر برجالها ونسائها الذين أسهموا في بناء مجدها وتجديد عطائها والمحافظة على أصالتها والذود عن محارمها وحرماتها. وقد دأب المغاربة ومنذ عهود خلت على إيلاء عناية خاصة بأعلامهم وعلمائهم، وخصوهم بالتكريم والاحترام والتمجيد في حياتهم  وبعد مماتهم، ويكفي تصفح كتب التراجم وموسوعات الأعلام وسير الرجال لمعرفة المساحة التي شغلها هؤلاء ضمن الإنتاج الفكري المغربي، وحضورهم الوازن في صياغة  تاريخ البلاد وبناء ثقافته وشخصيته الإسلامية. وقد ودعنا في الأيام القليلة الماضية من شهر محرم الحرام 1432هـ / دجنبر 2010م واحدا من الأعلام الكبار الذين أنجبتهم أرض المغرب المباركة، إنه المرحوم المهندس والمعماري عبد اللطيف الحجامي، إبن مدينة فاس، التي تشكل في المخيلةالجماعية دارًا للشرفاء والأولياء ومقصدا لأهل العلم والصلحاء.

فالمرحوم المهندس الحجامي ليس  فقيد  أسرته ومدينته فحسب، بل هو فقيد الوطن والأمة العربية الإسلامية لأن خدماته وإسهاماته وبصماته وإن تركزت بفاس، فإنها امتدت لتشمل جهات أخرى من بلدنا الحبيب، وعدة حواضر في البلدان العربية والإسلامية.

فهذا الرجل الذي يعد واحدا من الأبناء البررة لمدينة فاس، ارتبط اسمه  بالعمارة الإسلامية والمدن الأصيلة من زاوية حمايتها وصيانتها وإنقاذها ورد الاعتبار لها . لقد استثمر تكوينه العلمي الرصين ومعارفه الموسوعية -التي راكمها في أحضان أسرته العالمة وداخل فصول الدراسة بالمغرب وسنوات رحلته العلمية إلى الديار الفرنسية- من أجل الإسهام في بعث الحياة في النسيج الأصيل الذي يشكل جزءا أساسيا ضمن خريطة العمران والبنيان بالمغرب.

لقد اشتغل المرحوم الحجامي على بلورة مشروع علمي وعملي،  جاد ومتكامل، من أجل نفض الغبار وإبراز السمات وتبيان القيم التي يمثلها النسيج الأصيل، مستفيدا من تكوينه الدقيق في العمارة والعمران، ومما اكتسبه من الثقافة الإسلامية التي تربى عليها في كنف والده المرحوم العلامة الفقيه الحجامي. فكان بذلك من الأعلام السباقين في هذا الحقل العلمي.

لقد حمل المرحوم مشروعا لخدمة مدينته وبلده وأمته، مشروع المحافظة على المدن الأصيلة وإنقاذها ورد الاعتبار لها، مشروعاً يزاوج بين الأصالة والمعاصرة لأنه يتضمن في شقه الأول التراث الإسلامي بتعاليمه ومبادئه ومقاصده،  وفي شقه الثاني يركز على عملية الصيانة ورد الاعتبار الذي يستفيد من الخطط والوسائل والتقنيات التي توصلت إليها الإنسانية بفكرها المتألق والمتجدد والواعي، وبالتالي فإن مشروعه جمع بامتياز بين إشراقات الحضارة الإسلامية وأنوار الحضارة الإنسانية المعاصرة.

إن إدراك المرحوم الحجامي العميق للأسس التي انبنى عليها العمران الأصيل، والثقافة التي وجهت مساره وبلورت أساليبه وأنماطه، جعلته على قناعة بضرورة صيانته وتثمينه وترميمه مما اعتراه من علل وأمراض، وما شابه من تدهور وتآكل بفعل عوادي الزمن وتقصير الإنسان. فعمل بطريقة حثيثة، وجهد متواصل، وعزيمة لا تكل، وصبر لا يكاد ينفذ،  من أجل التعريف بمشروعه وتطبيقه على أرض الواقع، متسلحا بالعلم والعرفان، ومدافعا بالحجة والبرهان، مستحضرا محطات التاريخ وواعيا بأهمية المآل، مشتغلا على تحقيق المقاصد الواصلة بين الحفاظ على الدين وحماية المال والنفس، مستنيرا بقاعدة  درء المفاسد وجلب المنافع للمدينة وأهلها.

لقد شكلت المدن الأصيلة، وفي مقدمتها مدينة فاس، التي تمثل مكونا أساسيا من إرثنا الحضاري وثقافتنا الإسلامية- القضية المحورية عند المرحوم الحجامي، فلم يدخر وسعا طوال حياته -المليئة بالأعمال الجليلة والمشاريع الكبرى- فيتبيان أهميتها، وإبراز سماتها، والدفاع عن أحقيتها في أن تتبوأ المكانة التي تليق بها وبساكنتها والعاملين داخل أسوارها والزائرين لها.

ولتحقيق مشروعه المتفرد والسير به قدما،وظف عدة مناهج وأساليب، تجمع في جوهرها بين المعرفة  النظرية والفعل الميداني، وبين حسن التربية وجدية التكوين، وبين العمل التشاركي والتوظيف الإيجابي للطاقات والإمكانيات المتاحة.

وفي هذا السياق ركز على تكوين جيل من الشباب المهندسين المتخصصين في قضايا النسيج الأصيل والعارفين بخباياه وأسراره، والذين يعول عليهم في تحقيق باقي عناصر المشروع، وتجسيده على أرض الواقع، وحمل المشعل لنفض مزيد من الغبار عن التراث المعماري العربي الإسلامي.

كما فتح قنوات التواصل مع الهيئات العلمية والمراكز البحثية المحلية والوطنية والدولية، إدراكا منه بأن التراث العمراني والمعماري الذي انبنى على العلم، لا يمكن إنقاذه أو التدخل فيه بدون إشراك أهل القلم من مشارب مختلفة، وأهل البصر والدراية بشؤون البنيان والعمران الذين هم خزان المعارف التطبيقية وذاكرة الأمة الحية والمتواصلة في هذا الميدان.

وإدراكا من المرحوم بأن رد الاعتبار وتثمين التراث الأصيل هو مسؤولية الجميع، فإنه لم يقتصر على التنسيق مع المؤسسات والمصالح الإدارية المعنية، بل نسج تعاونا مثمرا مع الهيئات والجمعيات الفاعلة، فضلا عن إشراك القطاع الخاص في إنجاز الكثير من مشاريع الترميم والصيانة.

لقد استطاع الانتقال بمشروع إنقاذ مدينة فاس من الإطار المحلي والوطني إلى الفضاء الدولي، فأضحت المدينة موضوعا للنقاش والمدارسة في الملتقيات العلمية  الدولية، ومثار اهتمام المؤسسات العالمية والمالية، الوازنة والمؤثرة في ميدان المحافظة على التراث العالمي.

لقد كانت للمرحوم اليد البيضاء في تجميع الطاقات والموارد البشرية وتسخيرها بما حباه اللهمن مواهب جليلة وطاقات كبيرة، فهو العالم الموسوعي، والقائد المنظر، والمتفحص المدقق. إنه بقدر اتساع خياله وارتقائه بالفكر إلى مستوى عال من التنظير والتجريد، بقدر عنايته بدقائق الأمور والغوص في التفاصيل، فهو لم يكن يرضى في العمل والأداء عن الفعالية والمهنية والدقة بديلا.

وإذا كان العلم -كما قال وكتب الأسلاف- يخرج من حيطان فاس كما يتدفق الماء من عيونها، فإن المرحوم  عبد اللطيف الحجامي جعل من حيطان المدينة وأزقتها وبناياتها مادته العلمية المفضلة، فعرف كيف يستخرج منها الدرر، فكشف الحقائق الدقيقة من حجارتها، وفسيفسائها وكلسها، ورخامها وخشبها… لقد استنطقها بحكمة، فوعى قيمتها، ورق قلبه لأنينها، فقدم الوصفات لعلاجها، فكان خير الطبيب المعالج لها والمدافع المستميت عنها. ومن ثم فلا عجب إن  ترك رحمه الله بصماته واضحة في أسوارها، وعلى امتداد شبكتها المائية الأصيلة،  وفي الفضاءات الرحبة لباب المكينة، وبين أروقة فندق النجارين ومحيطه، وعلى واجهات المدرسة المصباحية، وداخل المدرسة العنانية االشهيرة التي تحدثت بها طويلا الركبان، ودار الأسطرلاب التي أيقظت الأنام، في شهر الصيام والقيام. بل إننا  نكاد نجد لوصفاته صدى في جل الدروب والأزقة، فاسأل منازل درب سبع لويات تحكي لك بتفصيل عن رقة هذا الطبيب، عن علمه وبيانه، عن براعته وسداد رأيه، عن عزمه وصبره، عن قوته وإرادته….

واذهب -إن شئت بعيدا- إلى البلاد التي يأتيها العباد من كل فج عميق، فاسأل عنه واحة الدرعية القديمة وقصورها التاريخية الطريفة، ذات المعاني اللطيفة،  المشرفة على وادي حنيفة، فلن تتردد بأن تعلمك عن قوة فراسته وعلو كعبه، فكم استفادت من خبرته، واطمأنت بتشخيصه لعللها، واقتراحاته لرد الاعتبار لها. ثم عرج على مدينة جدة، ميناء مدينة مكة -التي تهوى إليها أفئدة المؤمنين-فهي لن تنسى حركته ونشاطه، ولا أراءه وأفكاره، ولا صدقه وسمته، ولا استقامته وابتسامته.

لقد كان -هنا وهناك- نعم المهندس الرائد والطبيب المعلم.

فرحم الله هذا الرجل وأدخله فسيح جنانه وجعله مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وألهم ذويه ومعارفه وأصحابه ومحبيه الصبر والسلوان.  كما نسأل المولى عز وجل ألا يحرم الأمة من أمثاله. آمين.

د.  الحاج موسى عوني كلية الآداب فاس -سايس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>