الحمد لله رب العالمين ملء السماوات، و ملء الأرض، وملء ما شاء الله عز وجل من شيء بعد. وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
يقول الله عز وجل: {من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب :23).
حين مات أخي فريد بن الحسن الأنصاري -غفر الله له ورحمه- كنت أنوي الكتابة عنه؛ وفاء لصحبة عمرت سنين عددا؛ ولكن سبقني إلى ذلك إخوة كرام، فأحسنوا أيما إحسان في إبراز سيرة هذا العالم المجاهد الفريد، وقد نشرت جريدة المحجة العدد 330 خاصا عن المرحوم فريد.
وحين نعي لي أستاذي وشيخي المفضل بن أحمد فلواتي -غفر الله له ورحمه- كنت أود كتابة شهادة في حقه أيضا؛ اعترافا بفضل داعية حمل راية الدعوة صابرا محتسبا إلى أن لقي الله عز وجل؛ ولكن ناب عني أيضا إخوة أفاضل فصدقوا -فيما أحسب- فيما وصفوا به هذا الشيخ المفضل الجليل(انظر المحجة ع 342).
واليوم؛ وقد نعي لي أخي وأستاذي المهندس المعماري عبد اللطيف بن أحمد الحجامي-غفر الله له ورحمه- أجد نفسي متشوقا إلى تدوين هذه الشهادة؛ أداء لبعض الحق الذي له علي. سائلا الله عز وجل أن يجعلها في ميزان حسناته. ويغفر للسابقين وللاحقين ويرحمهم أجمعين.
كنت منذ فترة قصيرة في لقاء علمي؛ فسالت أحد الأخوة القادمين من مدينة فاس عن أحوال أخينا عبد اللطيف الذي كان يعاني من مرض عضال. فأخبرني بأنه بخير. فقررت أن أزوره عند أول فرصة تتاح لي. لكن شاءت الأقدار أن لا تتم هذه الزيارة في حياته. ذلك أنه بعد بضعة أسابيع توصلت برسالة فيها نعي لأخينا عبد اللطيف. فاسترجعت، ودعوت الله عز وجل أن يأجرنا في مصيبتنا، ويخلف لنا خيرا منها. فكل نفس ذائقة الموت. وكل نفس لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوفي رزقها. والأجل إذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يستقدم. ونحن سائرون إلى الله عز وجل نوشك أن نصل…
وشعرت بتفاهة هذه الحياة الدنيا وحقارتها؛ إلا أن تكون مزرعة للآخرة، وتعمر بذكر الله وما والاه. وأن المسلم يلزمه أن يغتنم الفرصة؛ لأن الموت يطلبه.
ثم دعوت الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه، ويثبت عند المسألة منطقه. وألا يحرمنا أجره، وألا يفتننا بعده. ويغفر لنا وله. وأن يزيد في إحسانه -إن كان محسنا- وأن يتجاوز عن سيئاته -إن كان مسيئا- ويكرم نزله، ويوسع مدخله، وينقيه من الخطايا والذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. ويبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله. ويجعل مستقره في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
ثم دعوت الله الحليم الكريم أن يرزق زوجه، وأولاده، وإخوانه، وأخواته، وأصهاره، وأقاربه، ومحبيه، الصبر الجميل .فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فليصبروا وليحتسبوا. وإن العيون مهما دمعت، وإن القلوب مهما حزنت فلن تتلفظ إلا بما يرضي الله عز وجل. وإنا على فراق أخينا عبد اللطيف لمحزونون. ولكن ما يخفف الآلام والأحزان أن ما عند الله خير وأبقى.
ثم عادت بي الذاكرة إلى ربع قرن من التلمذة والصحبة أو يزيد. إذ كان أول لقاء به رحمه الله سنة 1984 في بيت صهره شيخنا الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي-حفظه الله- ثم توطدت الصلة به أكثر نتيجة الزيارات المتكررة رفقة أخي الأستاذ جمال قصد استشارته في قضايا علمية يخص جزء منها بحثه “حق الجوار من خلال كتاب الإعلان بأحكام البنيان لابن الرامي التونسي رحمه الله. ثم صرت بعد ذلك من تلاميذه، وحظيت بشرف توجيهه في بحث “التخطيط والبنيان في الفقه الإسلامي” بعد أن أحالني أستاذي الشاهد البوشيخي -حفظه الله- عليه. وشرفت بوجوده ضمن أعضاء لجنة فحصه ومناقشته. فنعم الناصح الأمين كان.
وقد طفقت أنظر إلى حسنات الرجل، فوجدت هذا المقال يقصر عن استيعابها. ويسمح فقط بذكر بعض ما عن لي منها.
نشأ -رحمه الله- في بيت علم، وتربى في بيئة مؤسسة على التقوى، وفي أحضان علماء عاملين…
عاد بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المعمارية بفرنسا؛ ليضع خبرته وتجربته تحت تصرف بلده.
عرفته أخا كريما، ناصحا أمينا، برا رحيما، خافضا للجناح خدوما، صابرا محتسبا، ذا همة عالية، ثابتا على المبدإ حين يتساقط المتساقطون، منفسا للكرب حين يتثاقل المتثاقلون، حليما حين يجهل الجاهلون، باذلا للغالي والنفيس حين يمنع المانعون…
كان في آخر أيامه بعد اشتداد المرض عليه -كما ذكر بعض الإخوة- يحزم أمتعته ليودع الدنيا بمن فيها وما فيها. ويعد العدة للقاء ربه. أغلق جميع حساباته إلا ما كان من ذكر الله وما والاه. راغبا فيما عند الله، متضرعا إليه أن يغفر له ويرحمه، متحسرا على ما فاته من القربات، باكيا على كل لحظة فاتته لم يزدد فيها قربا من الله عز وجل.
كانت نظرته إلى العمارة الإسلامية تختلف عن كثير مما هو موجود في السوق العلمي، وفي عدد من النقاط الجوهرية. وقد طلب منه غير ما مرة أن يعجل بكتابتها وتدوينها؛ ولكن كان عذره- دائما- أن المسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق وتوثيق.
حاز قصب السبق في مجال العمارة الإسلامية بشهادة القريب والبعيد. وقد جمعتني بكثير من المهندسين المعماريين والمهتمين بها لقاءات ومؤتمرات وندوات فوجدته من أكثرهم فقها لقضاياها، واستيعابا لإشكالاتها، وعلما بمقاصدها وقواعدها وضوابطها، وإلماما بجزئياتها وتفاصيلها، وتمكنا من أدواتها ومنهجية التعامل معها.
كان -رحمه الله- يرى أن حجم الخلل الذي أصاب الأمة في مختلف الميادين، وبخاصة في ميدان العمارة الإسلامية يجب أن يوازيه حجم من الإصلاح أكبر . وأنه لا بد من تعاون المختصين والمهتمين -من مهندسين، ومخططين، وفقهاء، وخبراء…- وتكاثفهم وتكاملهم لتأسيس علم معماري إسلامي ينفع الناس ويمكث في الأرض.
أسس في المغرب مدرسة معمارية متميزة، وتخرج على يده -يوم كان أستاذا بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالرباط- أفواج من المهندسين المعماريين على قدر كبير من الفقه والوعي الحضاري.
آمن برسالة المهندس المعماري المسلم أشد ما يكون الإيمان، وحمل رايتها بقوة وأمانة، مقبلا غير مدبر. وأسهم في تحقيق كثير من الرشد العلمي والمنهجي في هذا المجال.
كان يرى أن العمارة الإسلامية التي تعكس مبادئ الإسلام، وقيمه، وثقافته، وحضارته، والمؤسسة على تقوى من الله ورضوان تأبى أن تكون تابعة للعمارة الغربية المؤسسة على شفا جرف هار، والتي في مجملها عبارة عن أدوات صامتة للغزو الفكري، والاستلاب الحضاري. ودعا المهتمين بها إلى تجاوز الاهتمام بأشكالها ومظاهرها إلى الاعتناء بمضامينها وجواهرها.
لقد كان اهتمامه بعمران مدينة فاس العتيقة يفوق كل اهتمام؛ لأن المحافظة على معالمها العمرانية محافظة على أصالة الأمة وهويتها، و طريق إلى استرجاع عافيتها، ومقوماتها الحضارية.
تولى إدارة مندوبية المحافظة على مدينة فاس التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم وكالة إنقاذ فاس، وضرب أروع الأمثلة في التعريف بتراثها المعماري، والاهتمام به، والمحافظة عليه. وحرص على انقاذ ما يجب إنقاذه منه أشد من حرصه على نفسه. وقدم مشاريع لصيانته وتنميته. وحتى حين أسند أمر إدارتها إلى أحد تلاميذه ظل وفيا لها، ومنح من نصحه وتوجيهه خدمة للبلاد والعباد. ولا يزال أهل فاس يذكرون معروفه الذي أسداه إلى مدينتهم.
ولكونه من المبرزين في مجال العمارة الإسلامية فقد عهد إليه -بمعية ثلة من المعماريين المتميزين- بوضع مشاريع قوانين للمباني التراثية في المملكة العربية السعودية. وبوضع اتفاقية العالم العربي واتفاقية العالم الإسلامي للمحافظة على التراث المعماري وتنميته، وبوضع مشروع قانون يضبط كل ما هو مبني في المغرب. وبإعداد “استراتيجية” للتعامل معه.
وكان من مشاريعه الأخيرة أن بدأ في تدوين كتاب حول التحولات الحضرية التي عرفتها مدينة مراكش، ولما أحس أن أجله قريب عهد إلى أخته الأستاذة عائشة الحجامي -حفظها الله- بالسهر على إتمامه رفقة مهندسين عينهم لذلك.
اتخذ سورة العصر {والعصر إن الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} شعاره في حياته العلمية والمهنية.
آمن بالعمارة الإسلامية شكلا ومضمونا، وبرسالة المهندس المعماري المسلم، ودعا إليها، وسعى إلى التمكين لها، ودافع عنها في مشاريعه، وفي المؤتمرات والمحافل الدولية، وحمل رايتها صابرا محتسبا إلى أن لقي ربه عز وجل. فهنيئا له بما أسلف في الأيام الخالية. وهنيئا لمن صبر بعده، وصابر، ورابط، واتقى الله حتى أتاه اليقين.
لقد كان -رحمه الله- من صناع الحياة. وإن موته قد أحدث ثلمة في البنيان الإسلامي عموما، وفي جدار العمارة الإسلامية خصوصا. ولكن عزاؤنا أن الله عز وجل يجعل بعد عسر يسرا.
فاللهم ارحمه، واجعل علمه وعمله وأثره من الصدقات الجاريات، و الباقيات الصالحات. و{اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}. {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}. و”الحمد لله رب العالمين”.
د. زكرياء المرابط كلية الآداب -مراكش