الأستاذ عبد اللطيف الحجامي ثروة وطنية فقدناها: قدرها الخارج وتجاهلها الداخل


كان أول لقاء لي بالراحل الأستاذ المهندس عبد اللطيف الحجامي رحمه الله، في شتاء 1989، في فجر يوم بارد بمدينة فاس، حيث كنت قد طلبت من أحد الأصدقاء أن يرتب لي معه موعدا للقائه، لكي أستفيد من علمه في العمارة الإسلامية التي يعتبر رائدها الأول بالمغرب. ففي تلك الفترة كنت أتابع دراساتي العليا بالرباط في شعبة جغرافية المدن، وكنت أنوي التخصص في المدن العتيقة، وذاك ما كان بفضل الله وبفضل أستاذي الجليل عبد اللطيف الحجامي رحمه الله.

وعودا إلى اللقاء الأول الذي لن أنساه أبدا، حيث كان الموعد هو أن ألتقي به عند محطة لحافلات النقل العمومي، وأن أرافقه في السفر إلى الرباط بسيارته (إذ كان يتنقل إليها أسبوعيا لإلقاء دروسه بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية التي كان من أحد مؤسسيها)، وكنت حتى ذلك الحين لا أعرف وجهه، وكنت أعرف فقط أوصافه وأوصاف سيارته. وعندما جاء بسيارته إلى مكان اللقاء كان معه والده المرحوم الفقيه المجاهد الشيخ الحجامي، حيث كان يرافقه لأداء صلاة الفجر في المسجد باستمرار. واعتذر لي عن عدم السفر في الصباح وتأجيله إلى الظهر. وذاك ما كان، فتم التعارف فيما بيننا في الطريق وكان أول حديث بيننا عن موضوع العمارة الإسلامية، كما أن أغلب الدروس التي أخذتها منه عن العمارة الإسلامية كانت في الطريق أيضا، حيث رافقته مرات عديدة في أسفاره الأسبوعية إلى الرباط، كما كان يزورني في بيتي في الرباط (البيت الذي كنت أتقاسم سكناه مع طلبة آخرين) مثلما كان يزور طلبته الذين يشرف على بحوث تخرجهم. هذا فضلا عن أن بيته ومكتبه في فاس كان دائما مفتوحا للجميع، للطلبة ولطالبي المساعدة والمشورة…

كان رحمه الله حسن الخلق، وكان أول خلق اكتشفته فيه هو بر الوالدين، ثم الكرم حيث كان بيته بيت كرم، وكذلك المشي في حاجات الناس، وهي خصلة امتاز بها طوال حياته، إضافة إلى تواضعه.

كل ما سبق كان عن الأستاذ عبد اللطيف الإنسان، أما عبد اللطيف المهندس العالم والمثقف، فيمكن أن نقسم حياته العلمية والعملية إلى ثلاثة مسارات: المعماري؛ والمدرس؛ والباحث.

1- المعماري:

درس المرحوم الهندسة المعمارية في فرنسا، كما كان يتابع إلى جانب الهندسة المعمارية تكوينات أخرى، أساسا في العلوم الإنسانية، كانت -في نظري- السبب الرئيسي في تكوين “المهندس المثقف والمدرس والباحث”، بدون إغفال أنه أحد أبناء عالم مجاهد وعدد من إخوانه وأصهاره من العلماء والباحثين والمثقفين، الذين أثروا فيه تأثيرا كبيرا بدون شك.

بعد تخرجه، عاد إلى المغرب وعمل في البداية في المندوبية الإقليمية للسكنى والتعمير بفاس، ثم تم تعيينه على رأس مندوبية إنقاذ مدينة فاس ثم مديرا عاما لوكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس.

كان مشروع إنقاذ مدينة فاس لصيقا باسمه طيلة ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فلا يكاد يذكر أحدهما إلا وذكر الآخر، وذلك مرده لكون الفقيد هو الأب الروحي لهذا المشروع المتميز، الذي للأسف لم يوفق لا هو ولا من خلفه في التمكن من تنفيذ جميع مقوماته ومشاريعه، نظرا لعدة أسباب لا يتسع المقال ولا المناسبة للحديث عنها الآن. ويكفي أن نعلم بأن المشروع في عمومه اعتبر مشروعا نموذجيا من قبل عدد من الهيئات والمؤسسات الدولية، خاصة أنه يخص أكبر مدينة عتيقة في العالم وهي مدينة فاس العتيقة. كما أن المشروع كان ولا يزال مدرسة ميدانية للباحثين والطلبة في العمارة الإسلامية وفي كيفية رد الاعتبار إليها.

في أواسط تسعينات القرن الماضي ترك المرحوم العمل في القطاع العام وفتح مكتبا للدراسات، وكان أهم ما أنجزه هذا المكتب هو اشتغاله على مشروع رد الاعتبار لمنطقة الدرعية التي تنحدر منها الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية. هذا إلى جانب اشتغاله، طيلة حياته العملية تقريبا، كمستشار في مجال الهندسة المعمارية والتعمير، في الداخل والخارج، خصوصا فيما يتعلق برد الاعتبار للمدن العتيقة وبترميم المباني التاريخية.

2- الـمدرس:

لم تمض إلا سنوات قليلة فقط من تخرجه، حتى انضم إلى الكوكبة الصغيرة من المعماريين المغاربة الذين كان لهم الفضل في تأسيس المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية في بداية ثمانينات القرن الماضي، وهي المدرسة التي تخرج منها أغلب المعماريين المغاربة. وكان للفقيد تأثير كبير فيهم، بفضل خلقه الحسن وثقافته الواسعة وتمكنه من تخصصه واهتمامه المبكر والقوي بالعمارة الإسلامية. فلقد كان يشرف على “محترف التراث” (Atelier du patrimoine) الذي كان يتخرج منه المختصون في العمارة الإسلامية، إلى جانب تدريسه لمادة تاريخ العمارة.

وبالرغم من تركه للتدريس بالمدرسة في أواسط تسعينات القرن الماضي، فإنه لا تكاد تخلو أي جهة تقريبا من جهات المغرب، من تلاميذه الذين ولجوا الحياة العملية، في القطاعين العام والخاص، بل إن عددا منهم يعتلي الآن مناصب مهمة في الإدارة المغربية. والذين اختاروا العمل في القطاع الخاص يعدون من المعماريين المتميزين. وعلى سبيل المثال، في المصلحة الإدارية التي أشتغل بها، هناك سبعة من أصل تسعة من الزملاء المعماريين، تتلمذوا على يد المرحوم.

وكان المرحوم أول من أدخل اللغة العربية إلى هذه المدرسة، بل أكثر من ذلك، كانت المراجع التي يعتمد عليها الطلبة هي كتب التراث التي يتعثر في قراءتها حتى المنتمين لكليات الآداب والعلوم الإنسانية والكليات التابعة لجامعة القرويين. كما أن عددا لا بأس به من البحوث التي أشرف عليها كانت بلغة الضاد. والأمر -ولوأنه كان مستغربا في ذلك الوقت ويتلقى معارضة واستهزاء من بعض زملائه في هيئة التدريس- إلا أنه علميا كان ذلك هو المطلوب، لأنه لا يمكن فهم التراث المعماري العربي الإسلامي إلا بالرجوع إلى كتب التراث من كتب النوازل وفقه البنيان والمقاصد وكتب التاريخ…

3- الباحث:

الأستاذ عبد اللطيف رحمه الله كان أحد رواد العمارة الإسلامية بالمغرب، حيث كان من الأوائل الذين اهتموا بها وبحثوا فيها، على المستويين النظري والعملي. ولقد تميز في رؤيته ومنظوره للعمارة الإسلامية، وفي كيفية المحافظة على تراثها، وفي كيفية استفادة العمارة الحديثة من أصولها وتقنياتها.

كان المرحوم يشكل مدرسة خاصة في العمارة الإسلامية، إلا أنه وللأسف الشديد لم يدون نظريته ولا تجاربه. بل إنها يمكن أن تضيع إذا لم يقم تلامذته وأصدقاؤه وأسرته بكتابتها ونشرها، بعد البحث في مكتبته الخاصة، لعلنا نجد بعض المقالات والمحاضرات. وكنت أنوي أن أقترح عليه عند عيادتي له في عيد الأضحى، أن أساعده على التدوين من خلال تسجيل عدة مقابلات معه، ولكن أسرته الكريمة اعتذرت عن زيارته وحتى التحدث معه عبر الهاتف.

 دعوة لتكريم الفقيد:

نعم، إن الفقيد لم يترك كتبا ولا مقالات منشورة يعرض فيها فكره، إلا أنه كون جيلا بأكمله يحمل هذا الفكر. وأقل شيء يجب على هذا الجيل كرد للمعروف، خصوصا الذين نهلوا من علمه عن قرب ولمدة طويلة، هو أن يقوموا بتجميع تراثه إن وجد، والعمل على نشره، ثم بالكتابة عنه وعن فكره. وهذا العمل لن يستقيم ولن يعطي ثماره المرجوة إلا من خلال إحداث مؤسسة تحمل إسمه، ولتكن “مؤسسة عبد اللطيف الحجامي للعمارة الإسلامية”.

كان الفقيد ثروة وطنية، ولكنها كانت مقدرة ومكرمة في الخارج، بينما في الداخل تجاهلها الكثير أو كان يجهلها. وللأمانة فالمرة الوحيدة التي كرم فيها المرحوم في الداخل كانت في سنة 2009 من قبل المجلس الوطني لهيئة المهندسين المعماريين المغاربة. لذلك، فوفاء للفقيد ومن باب تكريم أولي الفضل والعلم، أتمنى أن يلقى مقترح المؤسسة الاستجابة من أغلب محبي الفقيد، وأن يعملوا على أن ترى النور في القريب العاجل، إن شاء الله تعالى.

رحم الله الأستاذ عبد اللطيف الحجامي، وأسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء، آمين. والحمد لله رب العالمين.

 باحث في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>