ألم قلم – لِمَ دعا القرآن الكريم إلى حسن الاستماع


ذكر العلماء قديما أن السمع أول حاسة تشتغل عند الإنسان، اعتمادا على قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ والأَبْصَارَ وَاالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، قال ابن كثير: “ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة: وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح، وقيل: الدماغ. والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً، كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده”. ومن ثم كان السمع مقدّما في الذكر والمسؤولية على الحواس الأخرى، كما يبدو واضحا من خلال قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. ولهذا قال أبو الدرداء: “أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان اثنان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول”

ولعل ما كان من ديدن زعماء المشركين منذ بداية تنـزّل الوحي من الصدّ عن الاستماع للقرآن الكريم حتى، ولو كان مجرد استماع، يأتي من إدراكهم أن الاستماع إلى الكلام الجميل يؤثر لا محالة في المتلقي، قياسا على ما كان من استماعهم للشعر وتلقيهم له، لذا منعوا عامة الناس من الاستماع إلى القرآن الكريم، وحتى إذا ما تم الاستماع إلى شيء معين فينبغي التشويش على ما تم الاستماع إليه حتى لا يستقر سليما في الإدراك؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْآنِ والْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ومعناه كما يقول ابن كثير: أنهم “تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن، ولا ينقادوا لأوامره، {والْغَوْاْ فِيهِ} أي: إذا تلي لا تسمعوا له، كما قال مجاهد. والغوا فيه، يعني: بالمكاء والصفير، والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وكانت قريش تفعله. وقال الضحاك عن ابن عباس: {والْغَوْاْ فِيهِ} عيبوه، وقال قتادة: اجحدوا به، وأنكروه وعادوه {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك، فقال تعالى:{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. لأن الاستماع والإنصات إلى القرآن الكريم في حد ذاته خطوة أولى في طريق التعبد به وازدياد الإيمان بالنسبة للمؤمن، أو الاقتناع به ثم الإيمان به واتباعه بالنسبة لغير المؤمن.

ومن هنا كان تأكيد القرآن الكريم أن من صفات المؤمنين الاستماع إلى القول والعمل به، كما في قوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا}، لأن من صفاتهمأن يستمعوا القول فيتبعون أحسنه. على عكس من سبق من أهل الكتاب الذين حرفوا ما أنزل إليهم واشتهروا بالعصيان والجحود، فقال جل ذكره عنهم: {قالوا سمعنا وعصينا}. كما حذر تعالى المؤمنين من الوقوع فيما وقع فيه المشركون، فقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}. إلى غير ذلك من الآيات التي يمكن أن يستخلص منها بصورة عامة أن للتلقي أهمية كبرى في الإدراك الحقيقي لمدلول الخطاب.

ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته القولية والفعلية حسن الاستماع إلى المتكلم أيّا كان موقعه ومقامه، ففي الحديث المشهور: ((نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)) وهو يدل على أن السامع قد يكون على درجة عليا من الوعي والإدراك والقدرة على الاستنباط. ويعزز هذا الحديثَ الحديثُ الآخر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت)). الذي يشير بكل وضوح إلى ضرورة حسن الاستماع إلى الخطيب يوم الجمعة وعدم إدخال أي شيء يمكن أن يشوش على هذا الاستماع، حتى ولو كان ذلك الشيء تنبيها للآخر إلى هذا الاستماع، لأن تنبيهه يكون، في الغالب، نتيجة ملاحظته أن هذا الآخر لا يستمع، ولن تتم هذه الملاحظة إلا بنوع من الشرود عن الاستماع من قبل المنبه، سيما وأن عدم الاستماع لا يكون في الغالب إلا من قبل الجهال، كما ذكر ذلك ابن حجر في تفسيره لهذا الحديث.

ومعلوم أن الاستماع المقصود هنا ليس هو ذلك الاستماع العابر الذي يمكن أن يحدث دون أخذ بعين الاعتبار للمتكلم، وإنما هو ذلك الاستماع الذي يعيه القلب ويدركه العقل، إنه ذلك الاستماع بكل ما تعني الكلمة من معنى،حتى يقود إلى التأمل والتدبر. ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. قال ابن كثير: “{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي لب يعي به. وقال مجاهد: عقل، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله، وتفهمه بلبه. وقال مجاهد: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}، يعني: لا يحدث نفسه في هذا بقلب، وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه، وهو شاهد بقلب غير غائب”. أما الاستماع اللاهي الذي يكون بالآذان دون وعي أو إدراك فهو من صفات العابثين غير الجادين، ولذلك وصف الله تعالى به المشركين قائلا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}. قال القرطبي:”قوله تعالى:{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهيةً قلوبهم، معرضةً عن ذكر الله، متشاغلةً عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لَهَيْتُ عن ذكر الشيء إذا تركتَه وسلوتَ عنه” كما جعلهم تعالى في آية أخرى صما بُكما عميا لا يعقلون وذلك في قوله عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}، لأن منافذ الإدراك وفي مقدمتها السمع قد عطلت وسدت وفسدت عليهم كما قال ابن القيم رحمه الله. ولعله لهذا السبب قال الحسن البصري: “إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على  أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول..”، وكان يقال: “أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره”. وكانت الحكماء تقول: “رأس الأمر كله حسن الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم”.

  د. عبد الرحيم بلحاج

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>