عبد اللطيف الحجامي… مسار حياة 1


النشأة والتكوين

ولد عبد اللطيف الحجامي رحمه الله تعالى سنة 1954 بمدينة فاس، وترعرع  في أسرة علم وتصوف وجهاد.

فأبوه سيدي أحمد بن محمد بن أحمد  الحجامي الحسني الإدريسي المتوفى سنة 2003 كان من كبار علماء القرويين، ومن المشهود لهم بالورع والتقوى.

أما جده سيدي محمد فكان من شيوخ الطريقة الناصرية، كما كان قائدا للجهاد ضد المستعمر الفرنسي. إذ بمجرد علمه بتوقيع معاهدة الحماية وهو مقيم بزاوية أجداده بالجاية بنواحي فاس، نادى بالجهاد في القبائل فالتف حوله ما يناهز العشرين ألفا من المجاهدين من مختلف هذه القبائل حسب ما أورده المارشال ليوطي في مذكراته (ليوطي الإفريقي)، وشارل أندري جوليان في كتابه (المغرب في مواجهة الإمبرياليات)، والمرحوم علال الفاسي في كتابه حول الحركات التحررية بالمغرب العربي، وغيرهم. فهجم على مدينة فاس بقصد تحريرها من الاستعمار، واستطاع المجاهدون أن يسيطروا  على معظم أحياء المدينة بعد معارك طاحنة دامت طيلة الأسبوع الأخير من شهر ماي من سنة 1912. غير أن الجيش الفرنسي تلقى إمدادات عسكرية من مكناس والدار البيضاء مكنته بقيادة الجنرال كورو من الانتصار في تلك المعارك التي سميت في الأدبيات العسكرية الفرنسية بأيام فاس الدامية. وظل المجاهد الحجامي  يحارب الفرنسيين في مختلف مناطق شمال المغرب إلى أن ألقي عليه القبض في منطقة كتامة سنة 1930 ووضع تحت الإقامة الإجبارية بقرية حمدان، وبها  توفي ودفن سنة 1944.

وقد التحق سيدي أحمد والد عبد اللطيف بالجهاد مع أبيه منذ سنة 1914 وكان سنه لا يتجاوز الرابعة عشر، فكان يجمع بين الدراسة والجهاد حيثما انتقلت أسرته فالجد  كان دائم الترحال، يتنقل حيثما يمكنه الجهاد، و كان دائما جوابه على من يستشيره من القبائل في السلم أو القتال (إن أردتم الجهاد فأنا أول من يجاهد، وإن أردتم الصلح فأنا أول من يهاجر). ولم يلتحق ابنه أحمد بالقرويين إلا بعد إلقاء القبض عليه وعلى والده ومحاصرته في حمدان حصارا شديدا لكي لا يعود إلى حمل السلاح. فتفرغ للعلم والتحصيل ثم للتدريس بعد ذلك في مختلف المراكز العلمية بناحية فاس. وبعد وفاة والده ولي أمر الزاوية التي كان مقرها بقرية حمدان قائما على شؤونها بالوعظ والإرشاد، والذكر والعبادة، وإصلاح ذات البين بين الناس وتفقد أمورهم حتى بعد أن استقر بمدينة فاس.

وينحدر المرحوم عبد اللطيف من جهة أمه للا خدوج الهبطية الإدريسية من سلالة العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد  الهبطي واضع ما يعرف بـ(متن الوقف الهبطي) الذي أصبح العنوان البارز للمصحف المغربي والمدرسة القرآنية بالمغرب. وقد توفي بفاس سنة ثلاثين وتسعمائة هجرية، ودفن بروضة الزهيري بالطالعة بفاس.

كان منزل الأسرة بحي الكدان من عدوةالأندلس بفاس مقصد العلماء وأصحاب الفكر، تقام فيه حلقات العلم والمذاكرة باستمرار، كما يؤمه “فقراء الزاوية” ومريدوها يحيون الليالي بالذكر والتهجد ويتذاكرون مع صاحب المنزل سيدي أحمد في أمورهم الدينية والدنيوية، فنشأ عبد اللطيف متأثرا بهذه الأجواء العلمية والروحانية متشبعا بحب العلم والمعرفة.  كما كان  يصحب العائلة إلى قرية حمدان حيث يوجد ضريح جده الشيخ سيدي محمد الحجامي، وذلك لحضور موسم المولد النبوي الشريف الذي يحييه والده، فيشهد مجالس الذكر ويشارك في تأطير الوافدين وخدمتهم، وأحيانا كان ينوب عن والده في إلقاء الخطبة في الجموع الغفيرة التي كانت تقصد الزاوية. وقد كلفه والده قبل وفاته بالسهر على أمور الزاوية من بعده، فكان خير منفذ لهذه الوصية، حيث استمر في  إحياء المولد النبوي وفي رعاية الوافدين عليه والاهتمام بأحوالهم وقضاء حاجياتهم ومساعدتهم سواء خلال الموسم أو خارجه، بحيث ظل منزله محج مريدي الزاوية  في كل وقت إلى أن توفي رحمة الله عليه.

تلقى المرحوم عبد اللطيف تعليمه  الابتدائي بمدرسة الصفاح  وتعليمه الإعدادي  بثانوية مولاي رشيد بحي سيدي بوجيدة، ثم انتقل بعدها إلى ثانوية مولاي إدريس لمتابعة دراسته في شعبة الرياضيات حيث  حصل على شهادة الباكالوريا في يونيو من سنة 1969.

وقد كان لإخوته الكبار عظيم الأثر في تكوينه وصقل مواهبه بتوجيهاتهم ونصائحهم خاصة منهم المرحوم سيدي عبد الله خريج جامع القرويين في العلوم الشرعية وجامعة باريز في العلوم السياسية والاجتماعية، والذي كان يبث في إخوته عن طريق النموذج  قيم الأخلاق النبيلة وحب المعرفة. فكان عبد اللطيف -وهو بعد تلميذ- شغوفا بالقراءة  يرتاد خلال أيام العطل المدرسية بانتظام المركز الثقافي المصري بالبطحاء أو المركز الثقافي الفرنسي بحي الزربطانة رفقة أختين له تقربانه سنا، في جو من التنافس البريء على القراءة والاطلاع.

انتقل المرحوم بعد حصوله على شهادة الباكلوريا إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا بالمدرسة الخاصة للهندسة المعمارية بجادة غاسباي بباريس Ecole spéciale dصArchitecture  فكان من أبرز طلبتها وأنجبهم. نال إعجاب أساتذته وظفر بثقتهم وصداقتهم نظرا لأفكاره النيرة والجريئة التي كان يستقيها من قراءاته المتنوعة ومن أسفاره المتعددة لمختلف أنحاء أوروبا للاطلاع على أشكال العمران بها وإنجاز تقارير عنها يدمجها في تصوراته عن الهندسة المعمارية في مقارنة بالمعمار الإسلامي الذي نشأ في أحضانه. وقد شكلت العمارة الإسلامية محور بحثه الذي نال به شهادة التخرج من المدرسة الخاصة للهندسة المعمارية. كما أنه اختير للتدريس بنفس المدرسة خلال سنتين دراسيتين من 1975 إلى  1976.

ولم يفت عبد اللطيف أن يستثمر وجوده بباريس من أجل النهل من مختلف العلوم المتاحة، فلم يكن ليكتفي بدراسة الهندسة المعمارية، خاصة وأن نظرته لهذا العلم لم تكن تنحصر في البناء المعماري المادي بل كانت تتعداه إلى محور العمران البشري الذي هو الإنسان بكل أبعاده ومتطلباته المادية والروحية. فدرس العلوم الاجتماعية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بجادة غاسباي Ecole pratique des Hautes Etudes والعلوم الاقتصادية بكلية الحقوق بشارع أساس Assas ، والعلوم الرياضية بكلية العلوم بجوسيو Jussieu كما كان يواظب على حضور الحلقات الدراسية التي كان يلقيها كبار المفكرين في المعهد الفرنسي الشهير Collège de France من أمثال رولان بارت Rolland Barthes  وجاك لاكان  Jacques Lacan  وميشل فوكو Michel Foucault  وجاك بيرك Jacques Berque.

كان عبد اللطيف جريئا  في طلب العلم، ذا عزيمة قوية في اكتسابه، ذكيا في منهجه، بحيث أنه عندما يجذب اهتمامه ميدان معرفي معين يسعى إلى امتلاك أسراره من مصادره الأصلية بقراءة أمهات الكتب الصادرة حوله، ثم السعي إلى لقاء  رواد ذلك العلم  المعاصرين له للاستزادة من معارفه في الموضوع ، واستجلاء ما أشكل عليه أو مناقشة ما لم يستسغه من أفكار. وكثيرا ما كان يرى في أروقة المكتبة الوطنية وهو يتجاذب أطراف الحديث مع مفكرين كبار وهو ما يزال طالبا صغير السن، مستعينا في ذلك بما حباه الله به من ذكاء خارق، ومن قدرة كبيرة على التواصل.

رجع المرحوم عبد اللطيف إلى المغرب سنة 1978 راغبا عن كل مغريات الحياة بفرنسا، وذلك لقناعته بواجب  خدمة وطنه أولا وأخيرا. وقد عرض عليه منصب مهم بالرباط فرفضه  مفضلا الاستقرار بمدينة فاس حيث يمكنه صحبة والده سيدي أحمد للقيام بأموره والاستفادة من علومه.  فكانت إقامته بفاس مفتاح خير عليه وعلى المدينة التي أفنى عمره في خدمتها ورعايتها بكل ما أوتي من معرفة وعزيمة.

كما أتاحت له رفقة والده فرصة التعمق في العلوم الشرعية والتربية الروحية، فكان يقضي كل أوقات فراغه معه، وإن لم يجد فراغا في واضحة النهار،  فإنه كان يقتطعه من أوقات نومه وراحته، فيقوم الليل مع أبيه ويرافقه إلى المسجد كل فجر، وبعد عودتهما إلى المنزل يتلقى منه دروسا في العلوم الشرعية إلى طلوع الشمس. ولا يزال سكان حي بورمانة يستحضرون مشهد ذلك الشاب الوسيم الذي يمسك بذراع والده الشيخ الضرير برفق ويسير معه بتؤدة قاصدين مسجد الحي في الصلوات الخمس، وخاصة صلاة الفجر. فيؤم الشيخ الصلاة بالمصلين ويمضي وقتا وافرا معهم، إذ كثيرا ما كانوا يستوقفونه  طويلا بعد الصلاة للسلام عليه أو لاستفتائه في أمر من أمورهم، وعبد اللطيف  ينتظر والده مبتسما مصغيا له حتى يفرغ من ذلك دون أن يستعجله أو يبدو عليه أي ضجر رغم كثرة أشغاله والتزاماته. كما كان يحضر – كلما سنحت له الفرصة- مع والده مجالس المدارسة العلمية مع العلماء التي كانت تعقد في منزل العائلة أو في منزل أحد العلماء من أصدقاء أبيه، نذكر منهم على الخصوص الفقيه العلامة سيدي عبد الرحمن الغريسي والفقيه العلامة الطاهري  رحمهما الله.

كان عبد اللطيف يطيع والده طاعة تامة صادقة، لم يجادله أبدا في أمر صدر عنه ولو بدا له غير ذلك، منطلقا في ذلك من قناعته بفريضة طاعة الوالدين أولا، وبثقته الكبيرة في صواب آراء والده وحكمته ثانيا. فكان تصرفه مع والده تصرف المريد مع الشيخ،  فنال من صحبته تكوينا علميا وروحيا كان له خير معين على شق طريقه في الحياة العملية والمهنية، ومواجهة العقبات التي كثيراً ما اعترضت سبيله وأحاقت به، فلم تزده إلا قوة وعزيمة وإصرارا على تحقيق أهدافه النبيلة في خدمة الصالح العام، مضحيا في سبيل ذلك بحياته الخاصة وبراحته، لا يحدوه في ذلك سوى رضا الله وطاعته. فخرج  من كل الشدائد سالما غانما بفضل الله تعالى ورحمته، نرجو الله أن يحتسب له ذلك في آخرته.

فاس… مشروع العمر

كانت بداية المسار المهني لعبد اللطيف بفاس عندما التحق بالفريق المشتغل على إعداد التصميم المديري لمدينة فاس، ثم عمل ضمن خلية إنقاذ فاس التابعة آنذاك لوزارة الإسكان. وأذكر أن أول مواجهة فكرية له كانت مع فريق الخبراء الفرنسيين الذين اقترحوا (تهوية المدينة العتيقة) عن طريق شق الطرق السيارة داخلها دون أي اعتبار للنسيج المعماري للمدينة ونسقها العمراني وبناياتها الأثرية. فكانت له معهم جولات من النقاش الحاد حول هذا المقترح رافضاً نقل التجربة السيئة لمدينة باريز التي أدت مخططات هوسمان  المعمارية بها إلى محو معظم معالمها التاريخية، ومصراًَ على مراعاة الخصوصيات الثقافية للمعمار الإسلامي والحفاظ عليه.

وقد واتته الفرصة للعمل على ترجمة أفكاره حول هذا المعمار على أرض الواقع عندما أنشئت مندوبية إنقاذ مدينة فاس وعين  مسؤولا عنها، ثم بعد ذلك عندما أسست وكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس ADER-FES وأصبح مديرا عاما لها.  فقد انكب منذ البداية على بلورة المشروع الحضاري المتكامل لمدينة فاس، وعلى التأسيس العملي له مستعينا في ذلك بالإرادة السياسية لصاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني الذي جعل من أولوياته تأهيل مدينة فاس العتيقة وصيانة معالمها الأثرية، فكانت الرسالة الملكية الداعية إلى إنقاذ مدينة فاس، والتي أعقبها النداء العالمي للمدير العام لمنظمة اليونسكو السيد مختار امبو سنة 1980 الذي أطلقه من فاس للدعوة إلى تصنيف المدينة تراثا عالميا، فتم ذلك في شهر أكتوبر من سنة 1981. وأصبحت فاس منذ ذلك الحين محط اهتمام وعناية المحافل الدولية المهتمة بالتراث المعماري والثقافي.

وضع المرحوم عبد اللطيف خدمة مدينة  فاس نصب عينيه وكرس حياته لها، فهي عدا كونها مسقط رأسه ومدينة أسلافه، تمثل بالنسبة إليه تجسيدا لمعاني التمدن الإسلامي الذي يقوم على تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورياتها الدنيوية والأخروية. هذه المقاصد التي متحت منها الحضارة الإسلامية مقوماتها التي أغنت العالم  طيلة قرون.

لم يكن عبد اللطيف  ينظر إلى فاس كبنيان مادي  فقط، بل كان يستحضر  الغاية من هذا البنيان والمتمثلة بالنسبة إليه في بناء الذات  وتحصينها.

وانطلاقا من هذه النظرة الشمولية وضع أسس مشروع متكامل لإنقاذ مدينة فاس العتيقة، فرسم استراتيجية وطنية لتأهيل النسيج المعماري العتيق رفقة خبراء آخرين، وسهر على وضع نظام معلوماتي جغرافي يتضمن كل المعلومات التقنية والفنية المتعلقة بالبنايات العتيقة، وأنشأ معهدا للحرف التقليدية معيدا بذلك الاعتبار لخبرات ومهارات مهنيي هذا القطاع الذين كان يعتبرهم مصدر معرفة توازي المعرفة الأكاديمية أو تفوقها.  كما طعم مشروعه بتكوين نخبة من المهندسين الشباب المتشبعين بأفكاره ونظرياته حول التراث المعماري الإسلامي.

حاضر رحمه الله للتعريف بهذا المشروع والمنافحة عنه في مختلف الجامعات والمحافل، الوطنية منها والدولية. فحاضر ودرس في جامعات هارفارد  وكامبريدج وأكسفورد وروما وغيرها. وكان عضوا في العديد من الهيئات المتخصصة وطنيا ودوليا؛ فقد كان عضوا في المجلس الوطني للثقافة، وفي اللجنة الملكية المكلفة ببلورة مشروع المدينة الملكية للعلم والفن والثقافة، ومستشارا في التنمية والاستراتيجية الوطنية بالمعهد الوطني للتعمير والسكنى بالمغرب. كما  كان عضوا في المجلس التنفيذي للمجلس العالمي للآثار والمواقع الأثرية ICOMOS. وعمل خبيرا ضمن فريق خبراء برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD المكلف بتقييم وصيانة الإرث الثقافي  في أمريكا اللاتينية وجزر الكرايب، وخبيرا وطنيا في برنامج الأمم المتحدة للبيئة  PNUE لصيانة وتنمية المدن التاريخية بحوض البحر الأبيض المتوسط، وذلك من سنة 1982 إلى سنة 1989، وخبيرا في المركز الدولي لدراسة  صون وترميم الممتلكات الثقافية ICCROM بين سنتي 1994 و1999. وقد أنشأ بنفس المركز كرسيا علميا تحت اسم “الحفاظ العمراني الترابي المندمج” ITUC.

وشارك رحمه الله في لجن  تحكيمية لعدد من الجوائز الدولية، كمثل لجنة جائزة المدن العربية، ولجنة جائزة أغا خان للعمارة الإسلامية، ولجنة مؤسسة آل البيت لملك الأردن المرحوم حسين بن طلال، وجائزة مجمع الإمام البخاري  بسمرقند التي ينظمها مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية Oxford Center For Islamic Stadies  الذي يشرف عليه الأمير شارل. وكان المرحوم  قد سبق وألقى محاضرة حول فاس حضرها  الأمير شارل فأعجب بالمشروع وقرر زيارة فاس. وعند قدومه إليها طلب أن يرافقه عبد اللطيف لزيارة معالمها الأثرية،  وكان يستمع لشروحاته باهتمام بالغ جعله يتجاوز الوقت الذي خصصه البروتوكول للزيارة. وقد حكى لي المرحوم أن الأمير شارل كان يطلب منه أن يأخذ الوقت الكافي للزيارة  والشروحات وأن  لا يعير اهتماما للتوقيت المحدد رسميا!

ولقد ساهمت كل هذه الأنشطة في اكتساب تجربة إنقاذ مدينة فاس صيتا وإشعاعا عالميين، وأصبحت نموذجا لكل مشاريع ترميم التراث والحفاظ عليه، يعترف لها بالسبق والريادة على المستوى الدولي، وتدرس في أعرق الجامعات في العالم.

وقد وصفها الخبير المعماري يوكي ليطو  Jokilehto Jukka نائب مدير (المركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية ICCROM) بروما ب(قصة نجاح a success story).

خاض عبد اللطيف غمار مشروع إنقاذ مدينة فاس العتيقة الذي آمن به ورصد له حياته، بكل صدق وإخلاص وعزيمة وتفان. فكان يجند له كل طاقاته وقدراته المادية والمعنوية. يستغرق العمل الدؤوب والمتواصل معظم أوقاته، فيكتفي من النوم بسويعات قليلة، وقد يوصل الليل بالنهار أحيانا. وأكاد أجزم بأنه لم يعرف طعم الراحة إلا نادرا مذ دخل هذا الميدان، ولا أذكر أنه تمتع بعطلة كاملة مع أسرته طيلة ما يربو على العشرين سنة التي اشتغل فيها على مشروع إنقاذ مدينة فاس.

كان يزاوج بين عمله على رأس وكالة التخفيض من الكثافة، ومهامه كأستاذ في المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالرباط، ومشاركته في الندوات والمؤتمرات واللجان الدولية دون أن يظهر عليه القرف من ثقل المسؤولية أو التذمر من ضغط العمل، بل كان دوما متماسكا صامدا، بشوشا مبتسما بوجهه الصبوح، لا تفارقه أبدا روح الدعابة التي كان يملك أسرارها، والتي كانت تشع جو المرح من حوله، وتبعث الأمل وترفع المعنويات في أشد المواقف حلكة. فكان يستطيع بما حباه الله من قوة العزيمة والصبر على الشدائد، والقدرة على الإقناع أن ينقل ذلك النفس للمحيطين به من طلبة وعاملين معه في المشروع، فيجعلهم ينخرطون فيه بنفس الحماس والإخلاص.

لم يكن يعرف الكلل أو الملل ، كما لم يركن أبدا لليأس أو الاستسلام أمام العقبات والمعضلات كيفما كان نوعها أو مصدرها، بل كان يواجهها دوما بروح عالية واطمئنان داخلي يجعلانه يمضي قدما في مشروعه، مضاعفا مجهوداته ومتوكلا على الله وحده ثم على رضا الوالدين كما كان يكرر دائما. فقد كان لديه اعتقاد جازم  بأن ما يقوم به من عمل لخدمة العمران الإسلامي، ولتكوين طلبته، يدخل في باب العبادة الواجبة عليه شرعا، يتحمل مسؤوليتها أمام الحق سبحانه وتعالى مباشرة.

ومن بين المنجزات الميدانية التي سهر رحمه الله عليها،  ترميم فندق النجارين بتمويل من الوزير الأول آنذاك كريم العمراني. وقد شكل هذا الإنجاز الذي استعملت فيه تقنيات حديثة إلى جانب مهارات المعلمين البنائين التقليديين نموذجا رائدا في مجال ترميم وتأهيل المعمار الإسلامي. كما سهر على إصلاح وتهيئة  باب المكينة بتمويل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وعلى إصلاح جزء من شبكة القنوات العتيقة لتوزيع المياه والنافورات العمومية، والتي تعد بحق مفخرة التقنيات الإسلامية في المجال المائي، ومن أروع ما تحتضنه مدينة فاس من بنيات تحتية ظلت صامدة منذ تأسيس المدينة إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر. كما شارك المرحوم إلى جانب وزارة الثقافة في ترميم دار عديل بتمويل من طرف الحكومة الإيطالية وبدعم من اليونسكو.

وفي إطار انشغاله بقضايا التنمية والحفاظ على البيئة، سهر رحمه الله على تمويل وإنجاز دراسات الحصيلة البيئية لمدينة فاس، كان من استنتاجاتها ضرورة إعادة هيكلة الحرف الملوثة وترحيلها إلى خارج المدينة العتيقة في منطقة عين النقبي. أما الحرف الفنية غير الملوثة فيحتفظ بها داخل المدينة.

وكان عبد اللطيف لا يهمل فرصة تتاح له في المحافل الدولية للتعريف بالمجهودات المبذولة في المحافظة على الإرث التاريخي لمدينة فاس وصيانته وتحسين ظروف عيش ساكنتها، فيستعمل كل ما أوتي من وسائل الإقناع لجلب اهتمام المنظمات الدولية المتخصصة، والمؤسسات المالية من مثل البنك الدولي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والصندوق الإفريقي للتنمية. وقد بذل مجهودا كبيرا خلال المؤتمر الثاني للمدن المصنفة تراثا عالميا الذي انعقد بفاس سنة 1993  لإثارة الانتباه حول هذه الإشكاليات، وكان من نتائج ذلك  اقتناع  رئيس البنك الدولي جيمس ولفونسون James Wolfonson الذي زار فاسا سنة 1996، بضرورة إسهام البنك الدولي في مشاريع فاس المتعلقة أساسا بإدماج الساكنة في عمليات الترميم ومساعدتهم في ذلك، وتحسين مداخل المدينة العتيقة بتهيئة ساحة أبي الجنود ، وبعض المداخل الاستعجالية. وقد سهر عبد اللطيف على إعداد دراسات الجدوى بتعاون مع جامعة هارفارد. وبعد قبول المشروع، قاد المفاوضات مع البنك الدولي حوله إلى أن تم التوقيع عليه سنة 1998.  وقد تم تنفيذ المشروع بنجاح في الفترة ما بين 2000 و 2005.

واهتماما من عبد اللطيف بالجانب البشري للعمران، وتحقيقا للمقصد الشرعي في ضرورة حفظ النفس وحفظ المال، سعى إلى  بلورة برنامج يهدف إلى المحافظة على سلامة أرواح وممتلكات ساكنة فاس من خطر انهيار البنايات العتيقة بفعل الزمن والكوارث الطبيعية، فسهر منذ سنة 1993 على عقد شراكة بين وكالة التخفيض من الكثافة و المجلس البلدي لمدينة فاس بهدف تفادي الانهيارات، وتنظيم التدخل السريع والفعال لفرق الإنقاذ المتمرنة على مدار النهار والليل في الحالات الاستعجالية. وكان من ثمرات هذا البرنامج تقليص ملحوظ للكوارث وآثارها داخل المدينة العتيقة. ولا يزال هذا البرنامج لحد الآن يعرف دينامية ملحوظة في  خدمة سلامة الساكنة وممتلكاتها.

وأتذكر أن عبد اللطيف لما وصل إلىعلمه انهيار مسجد ابنة بكار في مدينة مكناس في السنة الماضية، والذي ذهب ضحيته ما ينيف عن الأربعين مصل، وكان رحمه الله يصارع المرض، تألم كثيرا. وقد ذكر لي بأن لديه خطة ناجعة لتفادي هذه الانهيارات في المستقبل، وأنه يسعى إلى تبليغ هذا الأمر إلى مراكز القرار مباشرة، ويتمنى أن تؤخذ مبادرته بما تستحقه من اهتمام، وأنه مستعد للإشراف على تنفيذها شخصيا ومجانا. غير أنه رحمه الله نقل أياما قلائل بعد ذلك إلى إسبانيا للعلاج وتدهورت حالته الصحية، فلم يخطر ببالي بعدها أن أسأله بخصوص تلك المبادرة إلى أن توفاه الله، كما ليس لدي علم حول ما إذا كان قد تكلم في هذا الشأن مع بعض المهندسين من طلبته وأصدقائه الذين كانوا يعودونه باستمرار. لقد كان رحمه الله حاملا لهم الوطن حتى خلال اللحظات الحرجة من مرضه.

 الـمـرحلة السعودية

لما حانت ساعة الرحيل من وكالة التخفيض وإنقاذ مدينة فاس،  غادرها عبد اللطيف مطمئنا إلى كونه قد غرس البذرة وأينعت، وأضحت في يد أمينة ستسهر على رعايتها وحفظها.

وقد وردت عليه منذ الشهر الأول لمغادرته الوكالة، عروض عمل متعددة في مناصب جد مغرية، كان من بينها عرض من قبل مؤسسة البنك الدولي بواشنطن للعمل كمستشار لرئيسه في المجال العمراني، وآخر من المملكة العربية السعودية للاشتغال على التراث الإسلامي بها. فكانت الاستشارة مع الوالد رحمه الله والاستنارة بهديه بعد هدي الله واستخارته. وهكذا كان دائما ديدنه رحمه الله في كل قراراته. فأشار عليه الوالد  بما وافق هواه وصادف مبتغاه، ألا وهو الاستمرار في الرسالة، رسالة حفظ  العمران الإسلامي وتأهيله. وقد ساهم في ترجيح هذا الخيار عامل أساس يتمثل في الرغبة في القرب من الحرمين المقدسين والجوار مع الحبيب المصطفى. فكان خلال إقامته بالسعودية يكثر من العمرة كلما سنح له العمل. وعندما اشتغل في جدةكان كثيرا ما يتوقف عن العمل مع فريقه ليمضوا إلى مكة لأداء عمرة يعتبرها فترة استراحة، يعود مباشرة بعد الرجوع منها إلى العمل حتى يصلي الفجر وقد يستمر إلى طلوع النهار. فقد كانت له رحمه الله طاقة على العمل قلما يستطيع من اشتغل معه على مواكبته فيها.

ومن بين أهم المشاريع التي اشتغل عليها بالسعودية، مشروع إنقاذ مدينة الدرعية التاريخية وبرنامج تنميتها.  وترسيم تصور معماري حضري لشارع الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، وهو مشروع ضخم يهدف إلى توسعة الحرم الشريف وإعداد نظام خاص يتعلق بوسائل التنقل، يمتد من الكعبة المشرفة إلى ضواحي مكة المكرمة.  كما اشتغل على إعداد تصور حضري لتهيئة وسط الرياض. وعند مرضه كان رحمه الله بصدد تهيئة متاحف بجدة، وإعداد مخطط للسياحة التراثية بها، وترميم مساجد بمنطقة الهفوف.

كما أنه رحمه الله كان قد بدأ مشروع دراسة كتاب حول التطورات الحضرية بالمدينة العتيقة لمراكش بطلب من مديرية التعمير بوزارة السكنى. ولقد حال المرض فالموت دون إتمام هذا المشروع الذي استمر يشتغل عليه ويتكلم عنه حتى الشهور الأخيرة من مرضه، وقد أوصى بإتمامه تعميما للفائدة.

و من طرائف الصدف أن يكون آخر ما قيل عنه من قبل الإعلام الغربي هو توصيفه  “بطلا للتراث”، وذلك في برنامج للتلفزيون البريطاني سجل بفاس في شهر أبريل من سنة 2010 وأذيع يوم 17 يوليوز من نفس السنة، خمسة أشهر قبل وفاته رحمه الله.

لقد كان عبد اللطيف رحمة الله عليه يعشق عمله ويجد راحته فيه، ويقول دائما أنه لو كان له الخيار مرة أخرى، لما اختار غير الهندسة المعمارية و المعمار الإسلامي عملا. و لم يكن يوازي صرامته وجديته في عمله، سوى طيبوبته الفطرية وسماحته، وتجاوزه عن أخطاء الآخرين معه وظلمهم له، ومسارعته لتقديم العون لكل من هو في حاجة إليه. لقد كان كريما خدوما مع الجميع، دون انتظار مقابل أو جزاء،  بعيدا عن كل انتهازية أو وصولية. لقد ظل عفيفا نظيفا طيلة حياته، لم يغتن بعمله، واكتفى بغنى الله عن كل ما عداه.

تعايشه مع مرضه

من علامات توكل عبد اللطيف على الله وثقته به، ما أبان عنه من رباطة جأش وتماسك وصبر خلال مرضه، وخصوصا عند الصدمة الأولى، عندما علم بطبيعة مرضه وخطورته. لقد كان ذلك صباح يوم الخميس 26 فبراير من سنة 2009. كنا في الأسرة ننتظر على أحر من الجمر نتيجة التشخيص الطبي ونحن نبتهل إلى العلي القدير أن تكون النتيجة مطمئنة. وصلني صوته عبر الهاتف منشرحا كعادته، يبادرني بالسؤال عن أحوالي، فقاطعته طالبة منه أن يخبرني بالنتيجة، فأجاب مازحا (لا بأس، اطمئني …إنما هو سرطان والأمل كبير في الله أن يشفيني إن شاء الله). لما أحس بهول الصدمة علي طفق يطمئنني ويواسيني وكأنني المريضة وهو المعافى..

هكذا ظل عبده -كما كنا نناديه في العائلة- طيلةمرضه. يهدئ من روع زائريه ويشفق عليهم من ألمهم عليه، يسأل عن أحوالهم وعن أدق تفاصيل حياتهم  ليطمئن عليهم، ويعرض صادقا المساعدة والنصيحة وهو طريح الفراش خائر القوى.  لم ير وهو مريض إلا مبتسما بشوشا حتى في أشد اللحظات حرجا، لم يكن يشتكي أبدا، بل كان يقاوم المرض بجلد وطمأنينة في آن. كثيرا ما كان يقول لنا خلال معاناته مع المرض: (أنا مرتاح، إذا بقيت معكم فأنا مرتاح، وإذا أخذني الله عنده، فأنا مرتاح).

كان إيمانه قويا، يعد نفسه للقاء الله راضيا بقضائه فيه، وفي نفس الوقت يأخذ بجميع الأسباب الشرعية، من طب حديث،  وطب بديل، وتداو بالأعشاب. وكان كثير الحمد  لله أن كان به  لطيفا فيسر له  جميع أسباب العلاج، داخل المغرب وخارجه، وبإمكانياته الخاصة الحلال. كما كان يشكره أن هيأ له عناية طبية رفيعة على يد أطباء أندلسيين مختصين في الطب البديل، خاصة عندما عجز الأطباء في فرنسا عن علاجه بالعلاج الكيميائي. صاروا أصدقاء له منذ تعرف عليهم في بيت والده الذي قصده بعضهم للدخول في الإسلام، فكان يكلفه باستقبالهم والعناية بهم. ولا يزال صدى صوت عبد اللطيف يرن في أذني وهو يؤم بهم صلاة الفجر، بعد أن نطقوا بالشهادتين واغتسلوا وتوضؤوا، في أحد أيام بداية الثمانينيات. منذ أن علموا بمرضه أحاطوه بعناية فائقة، عناية إنسانية أخوية صادقة، وعناية طبية دقيقة تعتمد أساسا على الطب البديل homéopathie والمقويات الطبيعية، فكانت خير معين له على مقاومة آثار المرض وتخفيف ألمه.

ومن نعم الله عليه أنه كان محاطا بكثير من الحب والحنان من لدن أسرته وأصدقائه ومعارفه وهم كثر والحمد لله، فكان يردد على مسامعنا أنه يتغذى من هذا الفيض من الحنان ويتقوى به، بعد الغذاء الروحي الرباني.  فكان يكثر من العبادات ومن قراءة القرآن وتدارس كتب التصوف مع ابني خالته وزوجي أختيه، سيدي الشاهد وسيدي أحمد البوشيخي. وظل رحمه الله ثاقب الفكر، حاضر البديهة حتى آخر رمق من حياته. فكان كثيرا ما يلتقط معان دقيقة صعبة المنال وهو يستمع إلى ما يسرد عليه، خاصة من كتاب الله أو  (كتاب الصدق)  للعارف بالله أبي سعيد الخراز، فيستوقف القارئ،  ويطفق في عرض ومناقشة معان ودرر لم ينتبه لها غيره.

وعندما جاء أجله، تجلت في وفاته كل معاني ورمزية  (جمالية الموت) موت المسلم، كما وصفها العالم الرباني الدكتور فريد الأنصاري رحمة الله عليه: (انسياب الروح في مملكة السلام، وانطلاق الشوق إلى الرب السلام). فقد توفي رحمه الله وهو يقرأ القرآن بصوت جهوري قوي لم نعهده فيه منذ مرضه، رافعا سبابته بالتشهد، ويده الأخرى ممسكة بجهاز التنفس، وعيناه على عداد دقات القلب. ثم بدأ صوته يخفت شيئا فشيئا وهو يردد الشهادتين، إلى أن خبا في انسياب هادئ. مات بهدوء المؤمن المطمئن. كأن روحه (..كوثر يتدفق ينبوعا من الأرض، فيعلو، ويعلو، حتى يخترق طبقات السماء برفق وسلام، ثم يتدفق من أعلى، رقراقا كالبلور الصافي..ثم يستقر بقبره ويوصل من الجنة بباب من الرحمة والرضوان، يهب عليه بأنسامها وبركتها حتى تقوم الساعة).

هكذا هو عبد اللطيف: قوي في حياته وفي مماته، قوي في إيمانه وفي أخذه بالأسباب. جسده يقاوم بما استطاع، وروحه تستسلم لإرادة الله وترحب بقضائه. يعقلها، ثم يتوكل على الله.

رحم الله أخي ورفيقي عبد اللطيف، وأسكنه فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.

دة. عائشة الحجامي


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “عبد اللطيف الحجامي… مسار حياة

  • احمد كفالة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

    لا يمكن للمرء إلا أن يترحم على الأستاذ عبد اللطيف ، لاحول ولا قوة إلأ بالله العظيم والبقاء لله

    كم هي صعبة على المرء فجاءة يصدم بخبر وفاة أستاذي الفاضل ، نعم كان مؤمنا وقويا ووفياً….. تواصلن معه في الخليج كثيراً … للموت جلال أيها الراحلون

    البقاء لله وحده تعالى