13- الاستعمالات الخاطئة تفقد اللغة قيمتها التعبيرية: معاول الهدم تتظافر منذ زمان على النيل من لغة القرآن(2): هل نستسلم لدعاة العامية؟!(2)


نتابع ردود د. أحمد عمر مختار على المحدثين من دعاة العامية في مصر مع التنبيه إلى أن ما وقع في مصر، وقع مثله أو أكثر منه في غير مصر من أقطار العالم العربي، بنفس الأدوات أو بغيرها مما يتفنن الخصم في ابتكاره. مما يستوجب تظافر الجهود لأجل تصحيح مسيرة الأمة في هذا المجال، يقول المؤلف:

5- يؤيد الكاتب دعوته إلى الكتابة بالعامية بقوله: >علينا تذكر الأمية؛ وأنها ما زالت متفشية بشكل كبير في وطننا العربي فهل تبقى هذه النسبة من الناس على هامش الحياة الأدبية<؟.

وهذا منطق غريب يناقض أوله آخره، فمادامت الأمية متفشية فكيف سيقرأ الأمي ما يكتب له بالعامية؟ وإذا كان الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب سيعتمد على السماع، فإن أذنه يمكنها أن تستجيب لنداء الفصحى، كما تستجيب لنداء العامية، وعلى هذا فالتذرع بتفشي الأمية لا يخدم قضية العامية مطلقاً. لأن الأمي لن ينفعه أن تكتب له بالعامية لأنه لا يقرأ، ولن يضيره أن تخاطبه بالفصحى لأنه يسمع ويفهم. ويكفي لكي أثبت للكاتب أن الأمي يفهم ويتابع بوعي وإدراك ما يقدم له باللغة الفصحى -أن أحيله (إلى) الأحاديث السياسية، وخطب الجمعة، والعيدين والمناسبات، ونشرات الأخبار التي تؤدى باللغة الفصحى، وإلى التمثيليات والمسرحيات والبرامج الجادة التي تقدمها الإذاعتان : المسموعة والمرئية بين الحين والحين باللغة الفصحى، وأذكره كذلك بما هو شائع في الريف المصري حين يتحلق الفلاحون في أوقات فراغهم حول فتى يقرأ لهم أخبار الصحف والمجلات وهم يتابعون ويناقشون دون أن تقف اللغة حائلا بينهم وبين الفهم والاستيعاب.

6- أمّا ما يتذرع به بعضهم من صعوبة الفصحى وسهولة العامية فهي حجة تعكس -من ناحية- عيباً في أبناء اللغة، لا عيباً في اللغة نفسها، كما تكشف -من ناحية أخرى- عن خطأ ينبغي تصحيحه لا السكوت عليه.

فليست اللغة الفصحى باللغة الصعبة إذا توافر لها المناخ المناسب، ودخلت حياتنا العامة والخاصة.

وليست العامية باللغة السهلة إذا كانت تكتسب عن طريق التعلم والدراسة، وليس عن طريق التقليد والمحاكاة. وإذا كان للفصحى قواعد ونظم، فللعامية قواعد ونظم كذلك، ولا توجد لغة في العالم بدون قيود وضوابط.

وإذا كان الكاتب أو القارئ العربي لا يجد مشقة في السيطرة على لهجته ، ويجد العنت كل العنت في التمكن من الفصحى؛ وتملك زمامها، فما ذلك إلا لأن الأولى تكتسب منذ نعومة الأظفار، وتصك الأسماع في كل لحظة وأوان، وتغزونا في عقر دارنا. وفي خارج ديارنا حتى في قاعات الدرس والمحاضرة، أمّا الفصحى فقد كتب لها الانزواء والانطواء، وحكم عليها أبناؤها بالعزلة، وحولوها إلى لغة شبه أجنبية على ألسنتهم، لغة غريبة عليهم يسمعونها -ولكن (لا) يمارسونها- في ساعات الدرس وأوقات المحاضرات فقط، وينسلخون عنها بقية ليلهم ونهارهم، ومن الغريب أن نجد من دعاة العامية من يقول : >إن الفصحى ليست لغة متكلمة في الحياة العادية وأنها عرضة للنسيان بالترك<. ويرتب على ذلك مطالبته بإلغاء دروس اللغة العربية في المدارس. أليس من الأجدر أن يعكس أمثال هؤلاء الدعاة القضية ويطالبون بدل ذلك أن تدعم الدراسة في المدارس، وتستخدم شتى الطرق والوسائل لتدخل الفصحى لغة الحياة العامة، وبذلك توتي المرحلة الدراسية ثمرتها، ويجد التلميذ في حياته العامة ما يربطه دائما بما درسه داخل الفصل؟

7- ويأتي معظم الهجوم على الفصحى من جانب نحوها وعلامات إعرابها، وهي مقولة إنْ صحت جزئيا -فلا تسلّم إلى النتيجة التي تراد لها. وأقصى ما تسلم إليه هذه المقولة : المطالبة بتيسير قواعد النحو وتبسيط مسائله، وحذف الأبواب والمسائل غير العملية منه، لا المطالبة بحذف اللغة بأكملها، وإلقائها في سلة المهملات. وإذا كان بعضهم يضيق بالإعراب في الفصحى؛ فإنني أراه (خيراً) لا شراً، ونعمة لا نقمة. ذلك أن الضبط الإعرابي يوضح العلاقات بين كلمات الجملة، ويحدد للسامع وظيفة كل كلمة، وهو في نفس الوقت يعطي الكاتب حرية تحريك الكلمات من أماكنها تقديماً وتأخيراً لأسباب بلاغية أو أسلوبية دون ما خوف من غموض أو إبهام. وإذا كانت العامية قد سكّنت أواخر الكلمات فقد استعاضت عن الحركة بترتيب الجملة ووضع كل جزء من أجزائها في مكان معين. فحين نقول : زارَ محمد علياً، تكتفي الفصحى بضبط “محمد” بحركة الرفع و”علي” بحركة النصب، وتترك للمتكلم مخالفة الترتيب معتمدة على أن الضبط الإعرابي يعصم السامع من الخطأ في التحليل، وإذا أخذنا مقابل هذا الجملة العامية “محمدْ زار علي” تجدها قد استغنت عن الضبط الإعرابي بترتيب المفردات في الجملة. وبهذا لوْ قُلْت “علي زار محمد” لاختلف المعنى فصار الزائر مزوراً، والمزور زائراً. وأكثر من هذا، مادامت العامية تشترط وضع كل جزء من أجزاء الجملة في مكان معين فمعنى هذا أنها تفترض في المتكلم أن يعرف أولا العلاقات بين كلمات الجملة الواحدة حتى يستطيع أن يضعها في ترتيبها الصحيح. وهي في نفس الوقت تفترض نفس الافتراض في السامع لكي يقدر على فهم مراد المتكلم . بمعنى أن المتكلم يجب أن يعرف أين هو الفاعل فيضعه أولا، والفعل فيضعه ثانيا، والمفعول فيضعه مؤخراً. وحين يريد السامع فهم الجملة لابد أن يفهمها على ضوء هذا التحليل. فأي فرق أن تدل على الفاعلية بضمة، أو تدل عليها بالموقعية؟ وكذلك أن تدل على المفعولية بفتحة أو تدل عليها بالموقعية؟ كلاهما يتطلب من المتكلم وعياً وحرصاً، وكلاهما يخضع للتحليل الإعرابي، ويحتاج إلى عملية ذهنية من المتكلم قبل النطق بالجملة، ومن السامع قبلهما.

عن العربية الصحيحة ص 22- 24.

د. الـحـسـيـن گـنـوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>