أولا- صـور أزمـة الـتـيـه:
مر على الأمة المسلمة خلال هذه القرون الأخيرة محن قاسمة، وفتن لم تخرج منها سالمة، ولا أن تستوي على سوقها قائمة، تاهت بها السبل والمناهج، وتعددت فيها المداخل والمخارج، وتمزقت الذات المتماسكة إلى ذوات متراشقة، وكثرت الولاءات، وتعالت الأصوات والنداءات، بوجوب تجديد الحال والتخطيط للمآل، فاختلفت المشاريع المقترحة والحلول المقترضة، وغلب عليها التقليد لتجربتين : إما تقليد الغرب ومجاراة حضارته والانغماس في حلوله الطينية، وإما تقليد لتجربة الذات المسلمة في عصور انحطاطها وابتعادها عن الأصول والإفراط في الفروع الدينية، وتغليب التشيعات المذهبية على حساب الاهتداء بهدايات الأصول الشرعية.
وهاهنا وجدنا بعض من قلد الغرب ورفد حلوله وأوفدها يرفع راية الحلول السياسية، وثان يرفع شعار الحلول الاقتصادية، وثالث يولي وجهه جهة الجوانب الاجتماعية ووضعية المرأة، وآخرون رأوا في جبهة الإعلام الثغر الحقيقي للإصلاح، ومنهم من وقف في باب التعليم معتبرا إصلاحه على منهج الغرب السبيل القويم والمدخل السليم، ولقد كان حصاد هذه التجربة الفشل الذريع والتشويه المريع إما بسبب الجهل بخصوصيات ذات الأمة وعن حسن نية، وإما بسبب معاداة مقومات روح الأمة مع سبق الإصرار والترصد وسوء الطوية {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}(الكهف : 99).
وفي المقابل وجدنا بعض من أحب الذات قد غالى في الوقوف عند الجزئيات الفرعية دون الأصول الكلية، وعند ألفاظ الظواهر والمباني دون جواهر المقاصد والمعاني، ومن توقف عند الحلول المذهبية لقرون التقليد والاجترار وأغرق في تقليد ومحاكاة الأفكار والأفهام، وأجحف في تقديس الأئمة الأعلام سواء أكانوا من عصور الازدهار والابتكار أم كانوا من عصور الانحباس والانحسار، وكان الأولى أن يقتدي بمنهجهم في الاستمداد مباشرة من هدى القرآن الكريم في النظر والاستبصار، وأن يتبع نهج النبي المختار في هدي العباد، ويستن بسنن صحابته الأبرار في الاستمداد والامتداد.
ولم تكد الأمة تجني من هذه المرحلة من الصحو بعد الغفو إلا تجارب جزئية عموديا وأفقيا، زمانا ومكانا، غلبت عليها النزعة الفردية والتحيزات القطرية والنظرة الآنية، وضعف الرشد العلمي والمنهجي والتدبير الشمولي، وكل من الصنفين السابقين (المقلدين للغرب وللذات) كان للأهواء أعبد وعن الحق أبعد، وكل من الصنفين أسهم بقدره في فصل الأمة عن أصولها وروحها ووحيها الذي به تخلقت في الوجود وامتدت في الزمان والمكان كما يتخلق كل جسم حلت فيه الروح ويمتد.
ولكن تقويم مسيرة الأمة منذ ولادتها بالوحي وانتشارها به وله، وتراجعها عنه، وتقويمكل محاولات الوصل والفصل الجديدة وتجارب التيه العديدة كفيل بأن يرشد إلى تحديد عوامل القوة والرشد، وعوامل الضعف والتيه، وإلى تشخيص واجب الوقت وحاجيات الأمة في أبعادها الشمولية والكلية والحضارية، وكفيل بأن يضع أيدينا على الرشاد الحقيقي الكامن في العودة إلى وحي الله وشرعه الذي هو الأصل والاستمداد منه مباشرة وبغير واسطة.
ثانيا- من مفاتيح الرشاد نحو الولادة الجديدة للأمة:
والأمة اليوم بعد هذه التجارب العديدة الفاشلة كلا أو الناجحة جزءا في حاجة ماسة إلى أن تصنع مفاتيح بعثتها الجديدة بأيديها أولا ومن منهج الوحي وأصوله في صناعة الإنسان والحضارة الربانية ثانيا، ولعل أهم المفاتيح اللازمة للإقلاع الحضاري الجديد هي:
> مفتاح العلم:
فهو مفتاح الاستخلاف وشرطه الأساس الذي لا يقبل الاختلاف، والعلم هنا بمعناه القرآني الشامل لعلمي الدنيا والآخرة، والجامع بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية المادية والعلوم الإنسانية في تكامل وانسجام، ومن غير تنافر ولا صدام. وأولى العلوم اعتبارا وأعلاها قدرا العلم الشرعي ومنه تتفرع العلوم الأخرى وعليه تنبني، فهو الأصل وهي الفرع، وهو الميزان وهي الموزون. فإذا أقيم العلم على هيأته السوية من تقديم للعلوم الشرعية وبناء ما تبقى عليها استقام من الإنسان تصوره وصلح تصرفه، وسلمت البشرية من عبث الإنسان بالإنسان، وإفساد العمران والأكوان بما جنته يد الإنسان.
فالمطلوب من الأمة كل الأمة -الآن وقبل فوات الأوان- أن تعيد الوحي (قرآنا وسنة وسيرة) وعلومه إلى موقع الصدارة حتى يكون هو المؤطر لنظامها في الحياة تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، والحاكم لنظام علاقاتها مع ذاتها ومع ربها ومع الغير، ولا سبيل لبلوغ هذا المبتغى من غير صياغة الإنسان وفق هذا الميزان، وسبيل ذلك بإصلاح النظام التعليمي وما يوازيه من مؤسسات تشترك معه في نفس الوظيفة أو تتقاسمها معه وفق موازين القرآن، هذا الحصن الكبير -الذي نخره التغريب وصار العامل الأساس للتخريب- لابد أن يأخذ حظه الأوفى من التقويم والإصلاح لأن غيره من الميادين تبع له في الفساد والصلاح.
> مفتاح المنهج:
فليس هناك من معضلة يمكن أن تعانيها أمة من الأمم أكبر ولا أعظم من معضلة المنهج، فهو الطريق الواضح والبين والمستقيم إلى المقصود، وما فقدت أمة المنهج إلا تشتت منها الجهود وبعدت عن تحقيق المنشود لأن الإعمال السليم للمنهج الصحيح يكون كفيلا بتأهيل الكفاءات وترشيدها، وتصويب الاجتهادات وتجديدها، وتسريع الخطوات وتسديدها، وتقليل الأخطاء والهفوات وتصحيحها. ولقد قيل بحق القولة الحكيمة إن أعظم ثروة تملكها الأمم العظيمة هي ثروة المناهج القويمة.
والمنهج هو الذي يحقق التوازن ويضمن تقويم السير، ويساعد في تحديد الأولويات في كل مجال وبحسب الزمان والمكان، وتجديد العطاءات والاجتهادات، ويكسب صاحبه القدرة على الموازنة الحكيمة والسديدة عند تعارض الأمور أو اشتباهها.
وهنا لابد من التوكيد أنه لا منهج أسد ولا أرشد للأمة وللبشرية من منهج الله جل وعلا {قل إن هدى الله هو الهدى} وهو المنهج الذي بعث به رسوله الخاتم ، وبه لا بسواه نفخت فيها الروح وأخرجها رسول الله للناس بإذن رب الناس وعلى عينيه جل وعلا، فهذا المنهج المبثوث في الكتاب وفي التطبيق النبوي (السنة السيرة) هو المنهج الذي نحتاج إلى فقهه وفقه هداه في كل ما يتعلق بالأمة أفقيا وعموديا، وعليه وعلى هداه تتأسس الرؤية العلمية في الأمة، وبه وحده يكون منهاج التحقق والتربية والتخلق.
ثالثا- مفتاح التربية والتخلق:
والتخلق هنا معناه أن يتحول العلم والمعرفة إلى أخلاق، بل إن معارف القرآن العظيم وعلومه لا ينفك فيها العلم عن العمل، فلا علم إلا وغايته العمل، ولا عمل إلا وروحه العلم: >اِعملوا ما شئتم والله لن تؤجروا حتى تعملوا<(حديث)
لذلك وصف رسول الله بأنه كان قرآنا يمشي، لأنه ما بعث إلا ليعلم الأمة كيفية صناعة الإنسان بالقرآن وصبغه به ليستقيم على الميزان ولا يصح منه ذلك إلا أن يحل القرآن في ذاته ويصوغها وفق هدى الله عز وجل ويمشي به في الأرض فيراه الناس كل الناس. لذلك كان الاقتداء بسنن رسول الله في التربية والتخلق واحدا من أهم مفاتيح إحياء الأمة وبعثها من جديد على منهاج النبوة.
رابعا- مفتاح التنسيق والتكامل:
إذ ليس أضيع للجهود من تشتتها بدل تناسقها، ومن تنافرها بدل تضافرها، ومن تعارضها بدل تعاضدها، ومن تآكلها بدل تكاملها، وما ضيع الأمة في جني ثمرات مشاريعها الطيبة المباركة إلا غياب التنسيق والتكامل، وغياب جسور التواصل والترابط بين أجزاء الجسم الواحد، فتحتاج الأمة في بعثتها الجديدة بإذن الله إلى مفتاح التنسيق والتلحيم والتكامل بين جميع مؤسسات تدبير شؤون الأمة وهيئاتها في مختلف التخصصات العلمية والعملية.
وأخيرا لابد من التوكيد على أن القيام بهذه المفاتيح بشرائطه أن يتولاه العلماء الربانيون من الأمة الوقافين عند حدوده وضوابطه، وهو الكفيل بتجاوز سلبيات تجارب المخاض التي عانت منها الأمة في الحاضر و الماضي وبعدت عن الاستبصار بالعلم والمنهاج والتربية والتكامل والاعتبار بها في شؤون الدين والتعبد بقصد التجدد، أو بأعمالها في قضايا التدبير والعمران لتحقيق التقارب والتوحد.