كلمة الدكتور عبد الحميد أبي سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
المطلوب الأساسي أمران:
1- أن نعي بالخطر المحدق بلغة القرآن الكريم قبل فوات الأوان
2- تفعيل القرآن الكريم في واقع الأمة برمته
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
- الأستاذ الدكتور أحمد عبادي رئيس الجلسة
- الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
في الواقع يسرني أن أتقدم بالشكر إلى الرابطة المحمدية وإلى مركز البحوث والدراسات العلمية (مبدع) لإتاحة هذه الفرصة لهذه النخبة من علماء الأمة ومفكريها في أمر هو أهم الأمور التي تهيئها الأمة في الحال التي هي عليها، وهو كيف يفعل القرآن الكريم في واقع الأمة؟ والله قد تعهد بحفظه، والحمد لله فإن علماء الإسلام أدوا واجبهم في هذا، والإشكال الآن هو : كيف نُفعل القرآن في واقع الأمة لتستعيد ماكانت عليه : أي {خير أمة أخرجت للناس}.
أنا خريج جامعة في كلية التجارة علوم سياسية وفي التجارة المهم عند التجار هو الربح.
فلا ينظر التاجر في أمر ليس فيه ربح، ومن هنا فتفكيري دوما هو : ما هي النتيجة لما أبذله من جهد؟ إن كان فيه نتيجة مفيدة أفعله، وإلا فلا. وفي هذه الافتتاحية سأتحدث عن قضيتين أساسيتين يجب الوعي بهما تمام الوعي. الأولى عن لغة القرآن الكريم والثانية عن القرآن الكريم نفسه.
أولا : لـغـة الـقـرآن
والمؤسف حقيقة في هذا المجال أن أبناءنا ما عادوا يعرفون لغة القرآن، تعليمنا ما عاد يعطيها هذه الأهمية، واللغة العربية هي هوية أمة العرب التي هي قاعدة الإسلام. وكما تقول اليونيسكو يتوقع في خلال مائة سنة أن تموت اللغة العربية، وأنا أقول إن استمررنا على منهجنا في التعامل معها، لن تمضي ستون سنة إلا وستكون العربية قد ماتت كما ماتت اللاتينية من قبل، لأن تعليمنا وشبابنا يتكلمون اللغة العامية، صحفنا وأدواتنا الاعلامية تؤكد اللغة العامية، الأمر الذي يؤدي إلى فقد الهوية وتجزئة الأمة،
فهل نعلم أن الأمة الإسلامية ثلاثة أربعاها لا يعرفون اللغة العربية لأنها تهمهم فقط من الناحية الدينية : ولا يهمهم إلا الفاتحة والإخلاص؟ وسينتهي العرب إلى هذه النتيجة ولابد إذن أن تصبح اللغة العربية لغة الثقافة والعلم، ولن تنتشر في عالم الأمة، العالم الاسلامي إلا بشرط أن تصبح لغة الدين والدنيا، والوسيلة الوحيدة لكي تصبح اللغة العربية لغة علم وثقافة هي ترجمة الدوريات العلمية، ليس أرسطو وسقراط، وبالتالي مواكبة ما يجري من تقدم وعلم في علوم الحياة إلى جانب هداية الدين.
إذا لم تنشأ مؤسسات مهمتها ترجمة الدوريات العلمية وأوقاف تقوم بهذا فإن اللغة العربية ستموت، وهذا الأمر متروك لعلماء الأمة ومفكريها كيف يستنهضوا الأمة ويقيموا هذه المؤسسات.
كنت في الرياض في جامعة الملك سعود، وأذكر أحد إخواننا المهندسين وقد كان من مصر في الإلكترونيات، سألته : أين تعلمت؟ قال : تعلمت في روسيا، قلت بأي لغة؟ قال : باللغة الروسية، قلت كيف كنتم تواكبون التطورات السريعة في عالم الإلكترونيات، قال : كل أسبوع كنت أجد في المكتبة تلخيصا لكل جديد في أي مقال من الدوريات العلمية، لأن الجديد في العلم ينشر في الدوريات أولا ثم ينشر في الكتب ثانيا، ثم في نهاية الشهر يترجم المقال كاملا.
كل دول العالم تعلم العلوم والآداب بلغتها، متى يطلب منك لغة أجنبية؟ إذا دخلت في باب البحث العلمي : ماجستير أو دكتوراه.
فالذي يحتاج اللغات الأجنبية في أنظمة العالم المتقدم هم في الواقع أصحاب البحث العلمي وهم يتحولون إلى مترجمين.
فأرجو أن نعي هذا الخطر قبل فوات الأوان هذه ما يخص لغة القرآن.
ثانيا : القرآن الكريم كيف نفعله؟
بالنسبة للقرآن الكريم، إشكالنا أنه أصبح للتبرك، استظهار، قراءة،ولم يعد له شأن ولا تأثير في واقعنا، كل واحد يعلم حال الأمة، وواقعها، ومن يعلم حال الأمة على العهد النبوي والخلافة الراشدة يدرك مدى الهوة التي حدثت لأننا لم نعد نفعل القرآن في واقع الأمة، ولم نعد ندرك معنى القرآن ودلالته، فالله عز وجل يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام {آتيناهم الكتاب والحكمة} الكتاب : {ما فرطنا في الكتاب من شيء} {فصلناه}، {تبيانا لكل شيء} الحكمة هي حكمة التنزيل : تنزيل المفاهيم، المفاتيح لكل زمان ومكان هي المفاهيم التي يعاد تنزيلها باستمرار على واقع الأمة لكي يفعل هذا المفهوم.
فعلى سبيل المثال في باب الحكم والسياسة غاب تنزيل مفهوم الشورى وتفعيله قال تعالى : {وأمرهم شورى بينهم}، في الأمر العام هو يخص كل الناس، ليس العلماء وليس أهل الحل والعقد، كل الأمة وبعض العلماء يخطئ فيقول : أنتم لا تتحدثون في أمر الطب، ولا في أمرالدين، هذا للعلماء فقط، لا، ما أدركوا الفرق في هذا الأمر. في ما يختص بشؤؤن الأمة المطلوب هو العدل والمساواة والنزاهة.. وهذا يهم كل الأمة. لو حدث في باب الطب، مثلا، وباء في منطقة، فمن حقي كمواطن أن أسأل لماذا حدث؟ من الذي قصر؟ كيف حدث التجاوز في هذا الأمر؟ هذا حقي، لكن ليس من حقي أن أذهب عند الطبيب وأقول له ؛ خذ هذا العلاج أو ذاك العلاج، هذه قضية فنية. نفس الشيء في أمر الدين والشؤون العامة لكل الأمة، إذا أردت أن أقسم الميراث أو أعرف سجود الصلاة فعلي أن أذهب إلى الأخ المختص.
ونفس الأمر بالنسبة للشورى، فعلى العهد النبوي إلى عهد مائة سنة الذي يختار الحاكم هو أبناء الحاضرة أو العاصمة لأنهم لا يستطيعون أن يبقى المنصب فارغا حتى تأتي الأخبار من الشام والعراق ومن فارس هذا أمر غير ممكن.
إذن فالتطبيق هو المهم، ولذلك فدلالة حديث رسول الله أو الأثر : “على رأس كل مائة يبعث الله للأمة من يجدد لها أمر دينها”، ليس المقصود به فرداً وإنما كلما تطاول العهد وتغيرت الظروف يحتاج الأمر إلى تجديد التنزيل وليس تغيير الدين، الدين يبقى والمفاهيم تبقى، وإنما الذي يُتجدد هو تنزيلها وتفعليها.
وفي مجال الأسرة، وهي من أخطر المفاهيم، أعطى القرآن الكريم ثلاثة مفاهيم فيها وأي تشريع لا يحقق هذه المقاصد بالتأكيد يحتاج إلى إعادة نظر:
أولها : مودة ورحمة في العلاقة الزوجية
ثانيها : تسريح بإحسان، وأي نوع من التقنين لا يحقق هذه المعاني يجب تغييره.
فهنا كيف؟ يعني؛ ما الذي حدث، فمدرسة المدينة عزلت، فأصبح السياسي ليس لديه فكر ينبع من جوهر الاسلام، والعلماء عزلوا عن الحياة العامة. وانتهى الأمر إلى عزل الطرفين، وبالتالي استخدام خطاب التهديد والوعيد الذين هو مخصص للجاحدين والكافرين، وليس لأبناء الأمة ماذا يقول القرآن الكريم : {والذين آمنوا أشد حبا لله}.
ونعود إلى الأصول أصول الفقه التي هي أساسية ومعروفة، القرآن والسنة والإجماع والقياس، والأصول الفرعية هي عناوين علوم اجتماعية وبسبب العجز الذي أصاب وضع المعرفة والفكر في الأمة وعزل أصحاب الفكر، النتيجة بقيت مجرد عناوين.
لا يمكن أن تفهم هدايات القرآن الكريم إلا أن نفهم القضية التي نعالجها، الموقف الذي نعاني منه. ولذلك فالعلوم الاجتماعية والقرآن الكريم وعلومه ضروري جمعها في التعليم وإلا فكل منا سيهرف بما لا يعرف. صاحب العلوم الاسلامية يستظهر، وصاحب العلوم الاجتماعية يستظهر ولكن المطلوب أن نعود إلى القرآن الكريم وننظر في تراثنا ما الذي فيه من غث فنبعده، وما الذي فيه من سمين نفهمه ونفهم تنزيله على واقعه وليس لتكراره.
العلوم الاجتماعية فيها حقائق علمية، ولكنها ميسرة للرؤية الكونية المادية الغربية، فننزع الحقائق العلمية لكي تخدم فهمنا للطبيعة البشرية. لذلك فالقضية الأساسية التي يجب أن نعمل لأجلها : هو كيف نستعيد القرآن الكريم وحقائقه وعلومه لكي نفعله في واقعنا، ونستعيد قدرتنا الحقيقية، ونقود الهداية للإنسانية والكون وليس مجرد الاستظهار.
وهنا يمكن أن نستحضر تجربة الجامعة الإسلامية في ماليزيا فالقضية التي بدأنا بها هي كيف نجعل الطالب المسلم يستخدم عقله؟ ويهتدي بالشرع؟ فأنشأنا كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، جمعنا كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية -عدا القانون والاقتصاد لأسباب مهنية- مع الدراسات الإسلامية، وأنشأنا تخصصا مزدوجا، فيلزم الطالب كلما اختار مادة رئيسية في العلوم الإسلامية أن يختار في مقابلها مادة رئيسية في العلوم الاجتماعية، ونفس الأمر في المواد الفرعية، فماذا حصل؟ وماذا كانت النتيجة، أن الجامعة أصبحت تخرج نوعية من الطلبة خاصة ومختلفة وجامعة بين العلوم الإسلامية والاجتماعية، إضافة إلى إلزام الطالب بدراسة مادة الحوار والمناظرة والتدرب عليها تطبيقيا بين الطلبة، وهذا أدى إلى شحذ الطالب وتقوية ملكاته العقلية والتواصلية.
الذي أقصد من كل هذا أن علينا أن نحدد المهم لنا في القرآن الكريم وهو تفعيله في واقع الأمة، فأي شيء لا يؤدي إلى تفعيل هذا الكتاب إنما هو ضياع للوقت.
ولذلك أرجو أن يبدأ المفكرون والباحثون في هذا المؤتمر هذا المشوار لتستعيد الأمة موقعها، قدراتها ولتكون بداية لخير جديد وفجر قادم بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته