عودة الابن الضالّ


يوماً بعد يوم يتزايد ويتسع التيار الذي شقّه فلاسفة العلم المحدثون والذي يؤكد -أكثر فأكثر- التحام العلم بالإيمان. إن معطياتهم تتميز بالرصانة وتتناول بالتحليل قدرة العلم البشري والآفاق التي تمكن من الوصول إلى بعضها، ووقف إزاء بعضها الآخر ناكصاً، عاجزاً..

وهم في سبرهم لغور العملية العقلانية للإنجاز العلمي، ودراستها بعمق وروية، يقدمون للقارئ قناعات مدعمة بالأدلة والكشوف، ليس إلى نكرانها من سبيل.

إنهم أبناء العصر الذي خفّت فيه حدّة الوهج الـمُعشي الذي كان يوماً قد حوّل ببريقه الوحشي جماعات العلماء والدارسين إلى عبّاد خاشعين في محاريب الوثنية العلمية.

يومذاك ما كان بمقدور أحد من الناس أن يقف قبالة (العلم) ناقداً معترضاً.. ما كان بمقدور أحد أن يشكك بقدرة هذا الصنم على أن يمدّ إرادته إلى كل مكان، وأن يشمل برؤيته الموضوعية كل صغيرة وكبيرة، فلا ينال أحد من نتائجه التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. إن أحدنا لا يستطيع أن يتحدى الشمس بنظرة ثابتة، وإلاّ فقد قدرته على الإبصار.. كان العلم هو هذه الشمس التي تسلب البصر ممن يختار أن يتحداها.

يومذاك كتب السير جيمس ستيفن (1884 م) فصلاً يعتبر مثالاً للآراء العلمية في تلك الفترة.. قال: ” إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها، فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده، فهي كفيلة أن تعطينا كثيراً مّما نستمتع به ونتملاًه.. إننا قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة.. “.

لكن الزمن يمضي ومعطيات العلم الغزيرة تزداد تدفّقاً وعطاء كأمواج البحر، يدفع بعضها بعضاً ويضرب بعضها بعضاً.. ويتبين يوماً بعد يوم وعقداً بعد عقد أن ما كان حقاً بالأمس غداً اليوم باطلاً، وما هو مقبول اليوم، سيرفض في غد أو بعد غد.. إن نتائج الجهد العلمي ليست سواء، فبعضها قاطع بصدقه كالسكين، وبعضها الآخر -وهو كثير- اجتهادات ونظريات، وبعضها الثالث -وهو أكثر من الكثير- ظنون وتخمينات، وبعضها الرابع -وهو أكثرها- ميول وتحزّبات ونرجسّية وهوى.

وبعدما انطوت قرون الوهج والبريق ـ الثامن عشر والتاسع عشر ومطالع العشرين ـ جاء الوقت لكي يعاد النظر في مسألة حدود العلم وقدراته.. ولكي يتصدّى للحكم رجال ينطلقون من باحة العلم نفسه: المختبر، لكي يصدروا حكمهم فيكون أكثر منطقية وأشد إقناعاً.

ويبقى العلم ـ بعد هذا كله ـ يداً واحدة لا تستطيع أن تمضي بالحياة قدماً صوب الكمال.. وتبقى الحاجة الملحّة إلى اليد الأخرى.. يد الدين.. إذا ما أرادت البشرية تحركاً جاداً صوب الأحسن والأرقى.. تحركاً لايضلله غرور ولا يحبطه اعتماد أعمى على اليد الواحدة. هذا إذا لم نكن خاطئين، والخطأ ـ كما يقول السياسي الفرنسي العجوز تاليران ـ أكبر من الجريمة أحياناً.. وذلك في تصور العلم والدين: يدين، قد تعملان بتوازٍ.. نعم.. ولكنهما يدان منفصلتان.. هذه يد يمنى وتلك يد يسرى.. والأحرى أن نقول بأنه التيار الواحد الذي يلتقي فيه ويمتزج ويتداخل العلم والدين، وتنمحي الثنائيات التي جاءتنا من الغرب، ولم نذق لها طعماً في تجربتنا مع ديننا القيّم “الإسلام”.. هنا حيث يكون الدين “علماً” إلهياً شاملاً وحيث يغدو العلم عبادة و “ديناً”.

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>