أوراق شاهدة – وداعا سريلانكا وفي القلب غصات


الديـــن محبــــة

البيت السريلانكي الأخير الذي سيفتح لنا قلوب أهله قبل جدرانه كان ربانيا بكل المقاييس إذ كان يطل على جبل عملاق تكسوه طبقة هائلة من ضباب صباحي  كثيف، فيبدو كلوحة أسطورية تعكس عظمة الخالق سبحانه، وتستحث في الروح دفين الحنين لذكر الله تعالى.. وفي هذا المسكن التقينا بربة البيت وعائلة زوجها، وتشتغل بالمناسبة في التعليم ولها قسط بسيط من الكلمات العربية التي جهدت لتوصل لنا بها حبها لهذا الدين ورغبتها في خدمته.

في بيت “طيبة “وهذا اسمها التقينا نساء أخريات من طينة رسالية فريدة التففن حولنا، وكن يتلهفن لسماع كلامنا في الدعوة، ونشاطنا فيها، وكان لهن حظهن الوافر منها وهن في محيطات من الشرك العظيم، كن كأسنان المشط تآلفا ووحدة، يتزاورن ويتحاببن في الله ويعملن بجهد نسائي متراص لرفع راية الإسلام عاليا دون ضجيج كثير ودون غرور في نفس الآن، الشيء الذي علمنا أهمية الإخلاص في حمل هم الدعوة والثمار التي يجنيها المحبون لهذا الطريق والمخلصون لسنة وسيرة الحبيب في رسمه.

وكانت معالم الدعوة  تبدو جلية في صفات أهل البيت من النساء اللواتي صادفنهن حتى الخادمة البوذية التي كانت في خدمة ذلك البيت، ورغم صمتها المطبق كانت تبدي غير قليل من الفضول لبضاعة الدعوة وهي تراقب بدقة كل تحركاتنا.

وحين لاحظت ” طيبة ” اهتمامي بشأنها، أخبرتني بأنهم يكتفون بحسن معاملتها دون ضغط أو إكراه لتعتنق الإسلام، وأن من شأن تحلي  أصحاب البيت بالصفات الإسلامية صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حسن الخلق والمعاملة أن يحبب إليها دين الإسلام، وكم كان كلام طيبة جميلا وحكيما، وهل ضيع الأمة إلا غياب مثل هذه الصفات في قوة الإيمان وصدق العمل وحسن تمثيل الإسلام والحكمة في الدعوة؟؟.

في الصباح الأخير؛ صباح الرحيل جاءت طيبة لتدعونا إلى الإفطار ولتخبرنا بأن جماعة من النساء بالبيت الذي غادرناه اتصلن بها عبر الهاتف وأخبرنها بأنهن يردن المجيء فجرا لتمضية أكبر وقت معنا لكنها ردتهن بأدب جم وقالت لهن إننا نحتاج إلى قسط وافر من الراحة قبل مغادرة قرية ماتيلا إلى المركز الدعوي بالعاصمة السريلانكية كولومبو، وبإمكانهن الحضور للدرس الأخير قبل المغادرة.

وساعات قليلة بعد الإفطار بدأت باحة الطابق السفلي المخصصة للنساء تغص بالوافدات للاستماع للبيان والتعرف علينا، وكما في كل البيوت السريلانكية،

كان شوقهن لرؤيتنا مؤثرا بشكل يجل عن الوصف ، يتبدى ذلك من تحيتهن الحارة لنا.. من تشمم رائحتنا.. من عيونهن التي تتابع بإعجاب كل حركاتنا، وما كن ليفعلن ذلك لولا شوقهن الأكبر لهذا الدين، وحنينهن لآثار “عرب أطاعوا رومهم  وضاعوا” كما قال ذلك بمرارة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

لم يكن حيا في مخيلتهن إلا الزمن الخالد البهي للعرب الفاتحين  إبان فترة الرسالة  فترة الصفات، وقد ضيعناها نحن الخوالف فضعنا أو نكاد، فاللهم اُلطف.

وسمع صوت مكبر الصوت فساد فجأة صوت مطبق واشرأبت النساء السريلانكيات برؤوسهن يستعجلن صوت المترجم السريلانكي  لكلمات العالم المغربي الثاني الذي كان يرافقنا.

الطفيل الدوسي وسيرة الهـــم للديــن

مع شيخنا المغربي الوافر العلم حفظه الله طفنا في بستان الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، إذ أسرج قلوبنا للتزود العقدي وهو يحدثنا عن عظمة الخالق وفضله علينا الذي وفقنا لنحمل زادنا القليل من الدين ونقطع به آلاف الكيلومترات ونحط به في أرض الشرك لنزرعه في قلوب متعطشة لصبيب النبع النبوي الصافي النقي.كما حرك الداعي القلوب بحديثه الإيماني العميق عن نعم المولى على مخلوقاته والتي لا تعد، وتدعو كل متدبر فيها إلى اليقين بأن لا معبود بحق إلا الله العزيز، وغيره ضعيف وفان.

وأكبر النعم بعد نعمة الإيجاد من العدم هي نعمة الدين.النعمة التي تخرج المخلوق من ظلمات الجهالة والأثرة والأنانية إلى المحبة والتسامح والإيثار.

والصحابة الذين عرفوا قيمة الدين وقيمة وظيفة الأنبياء وظيفة الدعوة،  حين ذاقوا خيرات هذا الدين حملوها إلى أهلهم وعشيرتهم الأقربين، وهذا الطفيل الدوسي بسيرة عجيبة في الجهد للدين، بعد اجتهاده على أهله وقومه و بكل المثابرة يعود إلى الحبيب بأكثر من سبعين بيتا من  قبيلته وقد أسلموا.

وتوقف الشيخ ليتكلم عن ضرورة تحلي الداعية بالصبر أسوة برسول  الذي رفض قوم  الطفيل الدوسي اتباع ما جاء به من عند رسول الله  مبلغا فغضب منهم بعد جهده الجهيد عليهم فطلب من رسول الله  أن يدعو عليهم  فأجابه بدعائه العجيب:  اللهم اهد دوسا وأتني بهم مسلمين، فاستجاب له ربه وأسلموا، بعد عودة الطفيل إليهم مرة أخرى واجتهاده عليهم.. وتلك أهم صفات الداعية : عدم القنوط من الخير الكامن في القلوب، وهي من أجل الصفات في الدعوة والتي تخلق بها الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، وحري بنا اليوم أن نحييها لنحيي القلوب ونُبعَث من جديد بعثة ربانية لإنقاذ البشرية من كل المآسي.

والشيخ يفصل في التحلي بصفات الجهد للدين دخل وفد من النساء السريلانكيات عرفت فيهن أخوات البيت ما قبل الأخير. كانت ملامحهن تضج فرحا وهن يشرن لنا بالتحية ثم ينصرفن بهدوء عجيب إلى الترجمة السريلانكية لأقوال الشيخ المغربي.

ولأن زكاة المعرفة بالله والعلم به هي العمل، فإن الخروج بهذه المعرفة إلى العالمين رحمة بهم، كما فعل سيد الخلق، لاقتسامها معهم، هي زكاة هذا العلم ، وبالخروج إلى بيئة الدعوة يشحذ الإنسان  إيمانه، وكما في فترات ما يسمى التمرين والتي قد يخرج في سبيلها الإنسان إلى القطب الجنوبي لصقل مهاراته  وكسب مردود دنيوي أكبر،  فإن الخروج في سبيل الله يترتب عنه إحياء الأنفس وربطها بخالقها، وبالتالي سلخها من طينيتها ووضعها على سكة السلوك إلى رضا الخالق وجنته.

وكانت كلمات الشيخ الأخيرة إيذانا بالوصول إلى النهاية وهو يدعو لأهل سريلانكا بالثبات ويهنئهم على مرابطتهم في الجهد الدعوي ويحفزهم لنشر أطايب ثمار عمل رسول الله  في الناس أجمعين، فتحشرجت الكلمات فجأة في حلق المترجم السريلانكي وتاهت في حلقه والدموع تخنقها فضجت النساء السريلانكيات بالبكاء، ومع آخر كلمة وداع للشيخ المغربي لأهل سريلانكا أخذننا بالأحضان وانخرطن في النحيب، وكلهن كن يرددن: كيف نلقاكن مرة أخرى؟ وعبثا كنا نقول لهن أن بأن الله سبحانه بالخروج سيلاقينا في يوم ما في نقطة ما من العالم..

وماذا أقول لك قارئي.. هي بركات الدعوة وفضائلها العظيمة، فوحدها تفتح لك القلوب وتجعل أخوات لك لم تلدهن لك أمك يمنحنك كل هذا الحب، كلهذه الدموع الغالية، ومعها هدايا عميقة الدلالة ألححن على أن نأخذها حتى لا ننساهن إذ نرحل. وأمام الخادمة البوذية الواقفة متجمدة في مكانها  تنظر إلينا بعينين حزينتين مطبقتين على مشاعر لا تبينها، وجدتني وأخواتي الحبيبات من مجاهدات الدعوة المغربيات يسلمن عليها أتعمد احتضانها بكل صدق وتقبيلها في رأسها وعلى جبينها. وإذا الدمع يخضب عينيها وإذا الكلمات بوذية تتلجلج في شفتيها.وقرأت في ملامحها أن الرسالة وصلت، وأن دعوتنا لها بالكلمات الطيبة، والتصرفات الرحيمة التي لا نبذ لها فيها ولا جفاء أي بالصفات فقط، كسرت جليد ارتيابها  وأدخلتنا إلى قلبها الموصد، والتفت إلى الحبيبة طيبة وسألتها أن تواصل إكرامها وستراها إلى جانبها أختا مسلمة ذات يوم فوعدتني أن تفعل.

فما أعظم أثر الدعوة بالكلمة الطيبة، والتصرفات القويمة الحكيمة الرحيمة، من غير عنف ولا نبذ ولا جفاء، لو كان قومي يعلمون!!

كان الجو- قارئي- جو مأتــم. رماديا حزينا، لكن إيماننا العميق بعمل رسول الله  وضرورة أخذه بقوة يعزينا ويلهمنا الصبر لمواصلة مشوار الدعوة.. صرنا عربيات وأعجميات على قلب واحد،  قلب مسلمات تجمعنا الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، عليها التقينا وبها افترقنا، وقد تواعدنا أن نجتهد لتأتي فينا حقيقتها ونبلغها في نفس الآن للآخرين والأخريات من أولئك الذين يطحن بعضهم بعضا على امتداد العالم العربي باسم الثورة على الفساد، وهم في بحثهم عن غايات نبيلة تدعى العدالة والحرية والكرامة ضيعوا طريق رسول الله م الذي ما أحل دماء الأغراب إلا بحقها فكيف يحل دم مسلم بيد مسلم بهذا الاستسهال وبهذا الحقد الأعمى الذي يذكيه أعداء الحبيب المصطفى وأعداء رسالته كما أججوه في العهد الأول رفقة المشركين والمنافقين ليسقط العرب في الهرج ، والتظالم قمة وقاعدة… بلا جدوى وإن طال أمد الفتنة والله سبحانه يقول في محكم التنزيل

{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}.

وداعا سريلانكا وفي القلب غصات من دماء وأشلاء ونساء وأطفال ضيعهم المعتصم.

لاه هو المعتصم لاه هو المنادى.

ذة. فوزية حجبي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>