ابن السماك والفضيل بن عياض وأبو العتاهية والأصمعي وآخرون يعظون الخليفة، وكلهم يناديه يا أمير المومنين، فيبكي ويبكي، ولكن الخليفة وهو في قصوره وبين جواريه لا ينسى أن يجعل لنفسه قبرا يزوره بين الحين والآخر، ويدخله كلما أحس بغفلة عن ربه، أو قسوة في قلبه، فلنتأمل هذه المشاهد الممتعة، والمواقف الرائعة، لأمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله:
قال ابن كثير(1) : دخل ابن السماك يوما على هارون الرشيد فاستسقى الرشيد، فأُتي بقُلّة فيها ماء مبرد، فقال لابن السماك عظني، فقال: يا أمير المؤمنين بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها؟ فقال بنصف ملكي، فقال: اشرب هنيئا، فلما شرب قال: أرأيت لو مُنعت خروجَها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي الآخر، فقال: إن ملكا قيمة نصفه شربة ماء وقيمة نصفه الآخر بولة! لخليق أن لا يتنافس فيه، فبكى هارون.
وقال له ابن السماك يوما: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز و جل، والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته، فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة فقام فخرج من عنده وهو يبكي!
وقال له الفضيل بن عياض في كلام كثير ليلة وعظه بمكة: يا صبيح الوجه إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم وقد قال تعالى : {وتقطعت بهم الأسباب}(البقرة : 165) قال: حدثنا ليث عن مجاهد: الوصلات التي كانت بينهم في الدينا فبكى حتى جعل يشهق!
وقال الفضيل استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها ثم استدعى أبا العتاهية فقال له صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال :
عــش مــا بـدا لــك سالـما فـي ظـل شـــاهقة القصــور
تسعى عليك بما اشتهيت لــدى الـــرواح إلى البـكــور
فـــإذا النــفــوس تقعقعت عـن ضيق حشرجة الصـدور
فهــنـــاك تـعــلــم مـــوقـنا مــــا كــنــــت إلا فــي غـــرور
قال فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديدا! فقال له الفضل بن يحي: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته، فقال له الرشيد دعه، فإنه رآنا في عمًى فكره أن يزيدنا عمًى،
ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبي العتاهية عظني بأبيات من الشعر وأوجز، فقال:
لا تـــأمن الموت في طــــرف ولا نفس
ولو تمتعت بالحـجاب والحـــرس
واعـــلم بــــأن سهــــام الموت صائبة
لـــكــل مــدرع مــنــها ومـــــتــرس
تــرجــو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفـينة لا تجــري على اليـبـس
قال: فخرّ الرشيد مغشيا عليه!
وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول، فكتب مرة على جدار الحبس:
أمــا والله إن الظــلـــم شـــوم وـما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديـان يـــوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصــوم
قال فاستدعاه واستعجله في حِلَ ووهبه ألف دينار وأطلقه!
وقال الأصمعي كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء بيديها قصعة وهي تسأل منها وهي تقول:
طحطحتنا طحـاطح الأعوام ورمـــتـنا حـــوادث الأيـــــام
فـــــأتــينـــاكــــم نمــد أكــــفـا نــائـــلات لــزادكم والطعام
فـاطلبوا الأجر والمثوبة فينا أيــها الـزائرون بيت الحرام
مــن رآنـي فقد رآنــى ورحلي فارحموا غربتي وذل مقامي
قال الأصمعي فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسرورا الخادم أن يملأ قصعتها ذهبا فملأها حتى جعلت تفيض يمينا وشمالا.
وأمر بحفر قبره في حياته، وأن تقرأ فيه ختمة تامة، وحُمل حتى نظر إليه فجعل يقول إلى هنا تصير يا ابن آدم، ويبكي! وأمر أن يوسع عند صدره، وأن يمد من عند رجليه، ثم جعل يقول {ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه}(الحاقة : 28- 29)، ويبكي.
وقيل إنه لما احتُضِر قال: اللهم انفعنا بالإحسان، واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت ارحم من يموت!!
——
1- انظر ترجمة هارون الرشيد في البداية والنهاية لابن كثير ابتداء من 10/578
ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين amraui@yahoo.fr