قـوانـيـن الـقـرآن الـكـريــم (13) -قانون العداوة والبغضاء: التمايز بين أهل الولاء وأهل البراء منطلق العداوة والبغضاء


… لا زلنا في قوانين القرآن الكريم، والقانون اليوم قانون العداوة والبغضاء، وما أكثر العداوة والبغضاء بين بني البشر… حينما قال الله عز وجل {إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان}الأحزاب :72) فالبشر بعضهم حمل الأمانة وأداها كما أراد الله عز وجل، هؤلاء لهم صفات، والذين خانوا الأمانة لهم صفات. تنطلق العداوة والبغضاء من تباين بين نموذجين من بني البشر: نموذج حمل الأمانة وأداها كما ينبغي، ونموذج لم يحملها فوقع في شر عمله.

… لابد من أن نبين أن البشر على اختلاف مللهم ونحلهم، وانتماءاتهم وأعراقهم، وأنسابهم وطوائفهم، ومذاهبهم وتياراتهم؛ كل هذه التقسيمات وتلك المصطلحات من وضع البشر، ولكن البشر عند الله، وفي ضوء القرآن الكريم، لا يزيدون عن نموذجين لا ثالث لهما:

> نموذج عرف الله، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة؛

> ونموذج غفل عن الله، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة؛ ولن تجد نموذجا ثالثا.

من أين تأتي العداوة والبغضاء؟ إن الذي عرف الله واتصل به اشتق منه الكمال، فهو رحيم، هو عدل، هو منصف، هو لطيف، هو حكيم، هو عفو؛ مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله قوما، إذا أحب الله عبدا، منحه خلقا حسنا؛ فهذا الذي عرف الله وأدى الأمانة، واتصل به وأقبل عليه، اشتق منه الكمال، فله صفات يتميز بها، بل يتفوق بها؛ أما الذي غفل عن الله وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، خسر هذه الكمالات، فصار لئيما حقودا كذوبا، ظالما متجنيا، متعجرفا متغطرسا، فالتناقض بين صفات هؤلاء وصفات هؤلاء، هو أحد أسباب العداوة والبغضاء.

وقانون العداوة والبغضاء في هذه الآية الرائعة {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}(المائدة : 15) وما دام الإنسان بعيدا عن الله، فصفاته تتناقض مع صفات الذي آمن بالله تناقضا مريعا، وقد يسأل سائل: لِمَ لَمْ يجعل الله هؤلاء الذين لم يؤدوا الأمانة في كوكب آخر؟ لأراحوا واستراحوا، بل لِمَ لَمْ يجعلهم في قارة أخرى؟ بل لِمَ لَمْ يجعلهم في حقبة بعيدة عنا؟ لكن قرار الله أن نعيش معا، وأن نلتقي مع بعضنا بعضا، وأن يظهر التباين الصارخ بين المؤمنين وبين غير المؤمنين {أفمن كان مومنا كمن كان فاسقا لا يستوون}السجدة :18) {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}(القلم :35).

… {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا}(القصص :61) {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}(الجاثية :21) إذن هناك صنف من بني البشر أدى الأمانة، فاتصل بالله واشتق منه الكمال، وهناك صنف آخر لم يؤد الأمانة، وانقطع عن الله، وأصبح يعاني ما يعاني من أمراض البعد عن الله، أو من أعراض الإعراض عن الله: لؤم، كبر، غطرسة، أنانية، ظلم، عدوان.. هذا التناقض بين صفات المؤمنين وصفات غير المؤمنين، هو سبب العداوة والبغضاء، لذلك كما يقال: يكون على رأس الهرم البشري زمرتان هما الأقوياء والأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء عاش الناس لهم، والأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، الأنبياء يمدحون في غيبتهم؛ لذلك أحب الناس الأنبياء وخافوا من الأقوياء، بل إن كل البشر تبع لقوي أو نبي، فهذا الموظف الذي يستخدم ما أوتي من سلطة ليستعلي بها على الآخرين هو من أتباع الأقوياء، وهذا المؤمن الذي يستخدم كماله ليؤثر في الآخرين هو من أتباع الأنبياء.

الإصلاح الشامل لذات البين إكسير العداوة والبغضاء:

لذلك… قضية العداوة والبغضاء قضية أزلية أبدية، بل إن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، فهذا قدر المؤمنين، وهذا أحد أسباب تفوقهم، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، وإن أهل الحق لا يستحقون عطاء الله يوم القيامة، إلا ببذلهم وعطائهم وجهدهم الكبير الذي بذلوه من أجل سعادة البشرية، لذلك ليس من حديث يصدق في هذا الموضوع على قانون العداوة والبغضاء كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب أصابه أحدهما)). وقد تفسر هذه المودة والمحبة بين المؤمنين بهذا البحث العلمي، في كل إنسان مجموعة من الصفات، وفي إنسان آخر مجموعة أخرى، فكلما كان التقاطع كثيرا بين صفات هؤلاء وهؤلاء كان الحب والود؛ وكلما كان التقاطع قليلا بين هؤلاء وهؤلاء كانت العداوة والبغضاء؛ يعني كلما ازدادت القواسم المشتركة بين إنسانين كان بينهما الحب والمودة، فإذا ابتعدت هذه القواسم المشتركة كانت العداوة والبغضاء؛ فلذلك ورد في بعض توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ألا تصاحب إلا مؤمنا و لايأكل طعامك إلا تقي.

… الله عز وجل يقول في كتابه الكريم {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}(الأنفال :1) وكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب.. وقد فهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى هذا التوجيه القرآني على ثلاثة مستويات: أولا أصلح العلاقة بينك وبين الله، هي في الدرجة الأولى أساس كل نجاح، ولا ننسى… أنه ليس هناك نجاح جزئي، النجاح شمولي، فلابد من أن تنجح في علاقتك مع الله، وفي علاقتك مع أهلك وأولادك، وفي علاقتك في عملك، وفي علاقتك مع صحتك، فلذلك أصل النجاح أن تصلح علاقتك بينك وبين الله بالإيمان به، وطاعته والتقرب إليه والإقبال عليه ومحبته.

المستوى الآخر “أصلحوا ذات بينكم” أصلح كل علاقة بينك وبين الآخر، أصلح علاقتك مع أهلك، مع أولادك، مع جيرانك، مع أصدقائك، مع زملائك، مع أهل بلدتك، مع مواطني أمتك، أصلح هذه العلاقة، ويصلحها العدل والإحسان {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}(النحل :90) ثم ينبغي أن تصلح هذه العلاقة بين كل إنسانين، كن وسيط خير ، تدخل لرأب الصدع ولم الشمل، والإصلاح بين زوجين، أو بين أخوين، أو بين شريكين؛ فقانون العداوة والبغضاء ينطلق من قوله تعالى : {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}(المائدة :15) وإلى لقاء آخر إن شاء الله…

خبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>