أولا- في مقولة الدبابة:
كانت الدبابة رمز القوة في القرن العشرين، ورمز الاكتساح والغزو والمحو، ورمز التفوق العسكري، قبل أن يظهر سلاح الجو، وشكلت واحدة من أهم أنواع السلاح الحربي ذات المفعول السريع في حسم الحروب البرية، ولما ظهرت الدبابة وتطورت آلياتها كما وكيفا تغير شكل الحروب، وانقلبت موازين القوى لصالح من يملك الدبابة. وتحتفظ ذاكرة الإنسان والشعوب في القرن العشرين بصور عديدة للدبابة وهي تمحو الحدود الجغرافية وتغير خرائط العالم، أو تقلب أنظمة وتغير زعامات وتصنع ثقافات، لا زالت ذاكرة القرن العشرين حافلة بمشاهد رهيبة للدبابة بأفواهها النارية تصنع أحداث التغيير من الخارج ومن الداخل ، على أبواب الحدود أو على أسوار القصور، وما تحركت الدبابة في الشارع إلا وأخرصت كل لسان ناطق وعلا صوتها فوق كل صوت بشكل ساحق، وما دخلت مدينة إلا وخلت شوارعها من سكانها وسقط حكامها وخرب عمرانها.
وفي بلداننا العربية تتأثث ذاكرتنا بصور ومشاهد للدبابة المتوحشة سواء تلك التي دخل عليها المستعمر ينتهك بها العرض ويقضي على الحرث والنسل، ويسلب خيرات البلدان ويتوسع في احتلال الأراضي، أم تلك التي استعملها أبناء الوطن في وجوه بعضهم البعض لمحو كل أشكال التفاهم والتآخي والتراضي، فأحدثت هذه الممحاة العملاقة تغييرات عدت في زمنها ثورات عربية !! ثورات قادتها القلة المدببة وطلتها بصبغة الجماهير المعلية وإن كانت قد وجهت ضد إرادة الجماهير كلما تعارضت مع الحكام إمعانا في إتقان لعبة التزييف والتزوير، وبعد مضي الزمن انقشع للكثير أن راكبي هذه الدبابات وصانعي الثورات هم مصنوعون مثل دباباتهم، ولم تكن الدبابة تسمح أن تحمل على ظهرها إلا من صنع في نفس البلاد التي صنعت فيها هذه الدبابة: بلاد الدببة(جمع دب) أو بلاد أشياع الدببة !! فكانت ثورات الدبابة وانقلابات أشياع الدببة تعكس نوعا من التبعية والضعف الذي ولد في أصحابها كل أنواع الديكتاتويات الوحشية التي غلفها أصحابها بأغلفة الديمقراطية وخداع الجماهير بالتغيير والحرية والاستقلال، فمارس الثوار كل أنواع التزييف والتغليف والتغليب والتعليب فتحولوا مع الزمن إلى أصنام تعبد، وفراعنة تُمدَح، وطويت هامات الشعب واختصرت وظيفتها في أن تركع وتسجد، وترقص على جروحها وجراحها أمام الجلاد وتَمدَح!!
وما إن استقر حال الثوار ولذ مقامهم حتى أدركوا خطر الدبابة عليهم، فمنهم من ظل يتفاخر بشراء أنواعها ويتظاهر بتقوية جيشه، ومنهم جيش جيوشه ودفعهم بعيدا عنه وصنع لهم ملهاة حربية على حدود الجيران، فإن كان بين الجيران أخوة اندلعت الحرب بقوة، وإن كانوا أعداء حقيقة شكلت ظاهرا جبهات الصمود والتحدي وباطنا عقدت صفقات الجمود والتردي، وها هنا تخلص الحكام من خطر الدبابة من وجوههم واستعاضوا عنها بالصندوق لإضفاء المشروعية وإخفاء آثار الجرائم الوحشية!!
ثانيا- في مقولة الصندوق
ظلت كلمة الصندوق في الخيال الإنساني رمزا للأسرار، ومستودع أموال التجار، ووسيلة يتنافس في كسبها الأبرار والفجار، وحيكت عنه حكايات عجاب ونسجت حوله روايات غِراب كانت تسحر النفوس وتأخذ بالعقول والألباب، حتى اقترن الصندوق بوصف الغرائب والعجائب.
وقديما لم يكن أحد يملك الصندوق إلا “رجال البلاد”، وأولياؤها الذين يملكون أسرار التحكم في البلاد والعباد فيملكون ما يضعون في الصندوق، فكان الصندوق رمزا للملك، وملكا خاصا، وليس عموميا ولا جمهوريا، ويفقد قيمته حين يصير كذلك، ولذلك كان كل صندوق يحتوي كنزا إلا ويجعل عليه حراس غلاظ شداد حتى قيل “كل كنز عليه عفريت”.
وفي عصرنا الحالي، تطور الصندوق بتطور عصرنا، وتغيرت أشكاله وأنواعه ووظائفه، وكلها أشكال وأنواع لها سرها الخفي في التحكم في مصير ومسار الأمم والشعوب والأفراد، فظهر صندوق النقد الدولي، وصندوق الأسرار النووية، وصندوق أسرار الدولة والصندوق الأسود للطائرة وصندوق الضمان الاجتماعي وصندوق الانتخابات… وكل صندوق له حراسه الخاصين المحدودين والمعدودين ولا يحق للعموم الكشف عنه وإذاعة ما به من الأسرار، التي لو كشفت لتغيرت موازين البلدان والأمصار.
ويهمني هنا الحديث عن صندوق الانتخابات حامل أسرار الدولة، ومستودع أسرار إرادات الأفراد والشعوب. هذا الصندوق وإن كان قد تطور من الصندوق الخشبي إلى الصندوق الزجاجي الشفاف الكشاف إلا أن “برق ما تقشع” هي القاسم المشترك بين الصندوقين!!
هذا الصندوق دخل أوطاننا مبشرا بعهد الديمقراطية والنزاهة والحريات العامة، فاستبشر الناس خيرا فصفقوا وهللوا ولم يدروا أن هذا الصندوق يملك مفتاحه ساحر ليس كالسحرة المعدودين عند أهل الفن، إن هذا الساحر القابع فوق الصندوق الانتخابي ساحر جمع بين قوة السحر وسحر القوة، فهو قادر على قلب معادلة الصندوق رغم أنف الرياضيات، وقادر على جعل الأموات يصوتون لصالحه كالأحياء لأن الناس عنده متساوون في الحقوق لا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا بين أصفر وأحمر، ولا بين أنثى وذكر، ولا بين حي وميت قد قبر. وقادر على طمس عيون الشهود فلا يبصرون تحت قوة السحر، وإن أبصروا فيكتمون الشهادة ويخرصون تحت سحر القوة!! وهكذا صار الصندوق لا يعبر عن إرادة الشعوب بل عن إرادة حاكم الشعوب، ولا يبلغ رأيَ الناس إلى الحاكم بل يبلغ الناسَ برأي الحاكم!! وبدل أن يكون الصندوق جسرا ومعبرا لحرية التعبير وحسن التدبير وللتنمية والتعمير صار قبرا كبيرا لدفن مشاريع التغيير والتحرير!!
وصار هذا الصندوق في مخيلة الشعوب رمز الخداع، وعنوان النفاق السياسي، والكذب البواح، والتزوير والتزييف الصراح، حتى عزف الكثير عنه وزهدوا فيه، وامتنعوا من ائتمانه على أسرارهم وأصواتهم، وحسب الناس أن عصر الصندوق الانتخاب سينتهي بمجرد العزوف عنه وزُهد الناس فيه إلا أن الساحر الكبير المسلح بالسحر والقوة أبى إلا أن يظل حاكما ولو بأقل ما يعطيه الصندوق، و حينها فارت فورة الناس وثارت ثورتهم وتجمهروا في الشارع واقفين أو جالسين لا يبرحون مكانهم صارخين ليرحل الساحر القوي والوحيد من ديارنا ولترحل معه دباباته وصناديقه!!
ثالثا- في مقولة الشارع:
ارتبط الشارع في أذهان الناس تارة بأوصاف إيجابية فهو معَبْر لقضاء مآربهم ومكان للعمل والتلاقي والتزاور، وفضاء للتنزه وتنسم أنسام الحرية النقي بعيدا عن سجن البيت وأتعاب العمل، وتارة اقترن بأوصاف سلبية: وصف من يكثر المكوث به بأوصاف ذميمة: ابن الشارع ، أطفال الشوارع، اللهو واللغو ، الفراغ والمجون، التسول والتسكع.. وكان الوصف السيئ هو الأغلب.
غير أننا اليوم خلال شهور قليلة تغيرت نظرة الإنسان العربي وغير العربي إلى الشارع وأصبح هذا المكان مجلبة للفخر والافتخار ودفعا للذل والعار، ووسيلة للتحرر من تسيف الساحر البتار، وقهره الجبار، وصارت الشوارع ميادين للتحرير وانطلاق مشاريع التنمية والبناء والتعمير بعد أن عجز عنها كل من الدبابة والصندوق ومارسا كل أشكال الهدم والتدمير، بل صار محتل الشارع يُخضِع له الدبابةَ فتنقاد له وتحميه، وصار هو نفسه من يقرر شكل الصندوق ونوعه ويحدد قوانينه التي تسمح له بأداء وظيفته بعيدا عن سحر الكهان وقوة الطغيان.
فهل سينجح الشارع في الحفاظ على المبادئ السامية في السياسة الشرعية؟ وهل سينجح الشارع في صنع ما عجزت عنه الدبابة والصندوق؟ وهل سينجو الشارع من الاحتواء ويحافظ على استقلاله ونزاهته، ويحقق طموحات ساكنته؟
لا يملؤنا إلا الأمل.. ولا يقودنا إلا اليقين بأن نقول نعم، إذا لم ينحرف أو ينجرف!! وما لم يمتطه من هو على شاكلة من ركب الدبابة أو استغل الصندوق في الأمس القريب!!
ويحدونا الأمل القوي بأن نقول أيضا: نعم إذا تاب أصحاب القرار وأصلحوا الحال، وقرروا الشروع في الإصلاح في الحين، والقطع مع عهد الاستبداد والتخويف بالدبابة وكتم الأنفاس بالصندوق!!
د. الطيب الوزاني