مواقف وأحوال – فَلَنْ أكون ظَهِيراً للمُجْرمين


من أعان ظالما فهو ظالم، حقيقة يغفل عنها الكثيرون، فيقعون في ظلم العباد، وارتكاب مصائب كثيرة، وجرائم كبيرة، وينتشر فساد عريض، بسبب وجودهم بجانب ظالم، يزينون له بغيه وإفساده وهم يعلمون تارة، ويعينونه على ظلمه من حيث لا يشعرون تارة أخرى، وهم في الحالتين شركاء للظالم، سينالهم حتما نصيب من عواقب الظلم المهلكة، ونتائجه المدمرة، وإن بدرجات متفاوتة، فالظلم ظلمات يوم القيامة، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فاحذر أن تكون ظالما أو تعين ظالما، وكن كنبي الله موسى عليه السلام، فقد عاهد الله تعالى ألا يعين ظالما، ولا يظاهر مجرما، فقال : {ربِّ بمَا أنعَمْت عليّ فلن اكون ظهيراً للمجرمين}(القصص : 16) أذكرك بهذا وبمواقف وأحوال كثير من الصالحين، وهم يتدبرون هذه الآيةالكريمة من سورة القصص فأقول:

بداية القصة أني كنت أستمع إلى المستشار طارق البشري في قناة الجزيرة يوم الخميس 13 ربيع النبوي 1432 الموافق 17/2/2011 في برنامج: وحي القلم، فسمعت أنه لما عين في القضاء ذهب إلى مسجد السادة المالكية في القاهرة وصلى ركعتين وعاهد الله تعالى على ألا يكون عونا للمجرمين والمعتدين، قارئا قوله تعالى: {ربّ بِما أنْعَمْتَ عليّ فلَنْ اكُون ظَهِيراً للمُجْرِمِين} ثم تأملت فإذا ليس أول من استحضر هذه الآية وعاهد الله تعالى على ألا يعين ظالما، قال الألوسي عند تفسير قوله تعالى : {قالَ ربّ بِما أنْعَمْت عليّ فلَنْ اكُون ظَهِيراً للمُجْرِمين} واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلمه ما يدخل وما يخرج، فإن ترك قلمه صار عليه ديْن واحتاج، وإن أخذ به كان له فيه غنى، قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري، قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح: {قال ربّ بِما أنْعَمْت فلَن اكُون ظَهِيرا للمُجْرمين} فلا يهتم أخوك بشيء، وليرم بقلمه، فإن الله تعالى سيأتيه برزق.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر: يا أبا عمرو: إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج، آخذ رزقاً أستغني به أنا وعيالي، قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم، قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام:{قال ربّ بِما أنْعَمْت فلَن اكُون ظَهِيرا للمُجْرمين} قال: أبلغت إلي يا أبا عمرو، واللهِ عز وجل لا أخط لهم بقلم أبداً، قال: واللهِ لا يدعك الله سبحانهبغير رزق أبداً.

وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال: اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم، فقال أعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقال له بعض أصحابه: ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئاً، فقال: لا أحب أن أكون في شيء من أمرهم، وإذا صح حديث: ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم، فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه، وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطاً سأله فقال: أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال: لا. أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، ويا حسرتا على من باعدينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى. انتهى كلام الألوسي.

وقال أبو حيان عند تفسير هذه الآية: وقال رجل لعطاء: إن أخي يضرب بعلمه ولا يعدو رزقه، قال: فمن الرأس، يعني من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: فأين قول موسى؟ وتلا الآية : {قال ربّ بِما أنْعَمْت علي فلَن اكُون ظَهِيرا للمُجْرمين}.

وقال الرازي عند تفسير هذه الآية: وسمعت أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له فيه فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله، ومن كان الله له ولياً فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: {فلَن اكُون ظَهِيرا للمُجْرمين} ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.

فهل وعيت الدرس؟ وفقنا الله وإياك.

ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين      amraui@yahoo.fr

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>