نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل العبادة
… لا زلنا في قوانين القرآن الكريم، والإنسان.. يحب التفاصيل في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يحب الكليات. لو أردنا أن نتتبع في القرآن الكريم الكليات المتعلقة بحقيقة الدين، الآية التي تعد أصلا في هذا الباب، والتي تتحدث عن حقيقة التدين، وعن حقيقة الدين هي قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}(الأنبياء :25) يعني فحوى دعوة الأنبياء جميعا: التوحيد والعبادة. التوحيد هو العقيدة، والعبادة هي السلوك. التوحيد المنطلق النظري، والعبادة التطبيق العملي. التوحيد هو صلب الدين، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد أَلاَّ ترى مع الله إلها آخر، التوحيد أن ترى أن يد الله تعمل وحدها، التوحيد أن تعتقد أنه إليه يرجع الأمر كله، التوحيد يعني أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، التوحيد يعني ألا ترى مع الله شريكا، التوحيد أن تخلص الوجهة إلى الله.
“لا إله إلا أنا” قال العلماء: نهاية العلم التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، ونهاية العمل العبادة، لأن الله عز وجل يقول {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56) كأن هذه الآية التي تعد أصلا في هذا الباب، تبين أن فحوى دعوة الأنبياء جميعا… لا تزيد عن توحيد وعبادة، عن إيمان وعمل، عن منطلق نظري و عن تطبيق عملي.
التدين بالاتساء والعطاء وكف الإيذاء لا بمجرد الانتماء
ولكن.. البشر، كما نعلم وكما نرى، ألوان وأجناس وفئات، وأديان أرضية وغير أرضية، واتجاهات وتيارات، وطوائف ومذاهب؛ هذا التنوع اللانهائي في تصنيفات البشر، ما أنزل الله به من سلطان، بل إن الله سبحانه وتعالى في آية، يبين أن الانتماء الشكلي أو أن الانتماء التاريخي، من دون التزام، لا يقدم ولا يؤخر، ولا وزن له عند الله إطلاقا، ولا يرقى بصاحبه بشكل قطعي. هذه الآية تقول {إن الذين آمنوا} هؤلاء الذين ينتمون إلى الإسلام شكليا {والذين هادوا والصابئون والنصارى} جاء في بعض التفاسير أن الصابئين من خرجوا من الدين وأحدثوا دينا جديدا، يعني يمكن أن يسموا بلغة عصرنا العلمانيين… الآن دققوا، كأن الله عز وجل يبين أنهم عند الله سواء، لا وزن لهم، لا فرق بين جهة وأخرى، وبين صنف وصنف، شردوا عن الله جميعا، ولم يطبقوا منهج الله إطلاقا، انتموا إلى أديانهم انتماء تعصبيا، انتموا إلى أديانهم انتماء مصلحيا، لا انتماء عقائديا. هؤلاء الذين ينتمون إلى أديان متعددة، ويتعصبون لها، ولا يطبقون مناهج أنبيائهم، هؤلاء عند الله سواء وسيان، ولا وزن لهم، ولا شأن لهم، ولا رفعة لهم، بل إن هذا الانتماء الشكلي والتعصبي سبب خلافاتهم، بل وحروبهم، بل وسفك دمائهم.
…الآية تقول “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى” الآن دقق “من آمن بالله” من آمن بالله من هؤلاء جميعا الإيمان الذي يحمله على طاعته “واليوم الآخر” الإيمان الذي يمنعه أن يؤذي مخلوقا، آمن بالله فاستقام على أمره، وآمن بيوم الدين، بيوم الحساب، بيوم الجزاء، بالدينونة، الإيمان باليوم الآخر الذي يمنعه أن يؤذي نملة فما فوقها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول “دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض” فإذا كان التسبب في موت هرة يستحق عذابا غليظا في جهنم، فما قولنا فيما فوق الهرة؟
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}(الـمائدة : 69) كأن الله يبين حقيقة الدين، حقيقة الدين أن تؤمن بالله إيمانا يحملك على طاعته، وأن تؤمن باليوم الآخر إيمانا يمنعك أن تؤذي مخلوقا كائنا من كان “وعمل صالحا” بنى حياته على العطاء، كان صالحا في بيته ومع إخوانه، ومع أصدقائه ومع جيرانه، ومع من يتعامل معهم و في عمله، وفي سفره وفي إقامته، وفي خلوته وفي جلوته، وفي إقبال الدنيا وفي إدبار الدنيا… هذا الذي {آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم} من المستقبل، لن يخبئ لهم المستقبل إلا الخير إلا السلامة إلا السعادة، إلا التفوق إلا التقدم من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام {فلا خوف عليهم} من المستقبل {ولا هم يحزنون} من الماضي، وكأن هذه العبارة التي تتكرر في القرآن كثيرا، تبين أن الماضي مغطى بعدم الندم، والمستقبل مغطى بعدم الخوف…
الخلاف المذموم وجه التدين المسموم
… الله عز وجل في آية أخرى يذكر هذه الأصناف مجتمعة ثم يقول {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة}(الحج : 17) هو الحكم الذي يحكم على فئة منهمبالهدى أو بالضلال… لكن ماذا يفعل الطغاة في الأرض، وعلى رأس هؤلاء الطغاة فرعون موسى قال تعالى {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}(القصص :3) لذلك ما من طاغية على وجه الأرض إلا ويستخدم الخلافات بين الطوائف والمذاهب والأديان إن صح التعبير، ليفتت من حوله وليتمكن من السيطرة عليه {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}(القصص : 3- 5) يستنبط أن الله سبحانه وتعالى لا يسمح لطاغية على وجه الأرض أن يكون طاغية إلا أن يوظف طغيانه لخدمة دينه وللمؤمنين من دون أن يشعر، ومن دون أن يريد، وبلا أجر، وبلا ثواب.
.. وكما أن الطغاة يستخدمون الفتن الطائفية والمذهبية والدينية كسلاح من أجل سيطرتهم على من حولهم، هناك أناس أيضا يختلفون اختلافا شيطانيا، فالله عز وجل يقول {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم}(الأنعام : 159) أنت يا محمد “لست منهم” ليس منا من فرق، وقال تعالى أيضا {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}(الروم : 31- 32).
.. لو أن الإنسان توجه إلى غير الله، ماذا يجد عنده، الله عز وجل يقول {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}(العنكبوت :17).
… الآية التي ينبغي أن نتوج بها هذا اللقاء الطيب هي قوله تعالى {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم}(فصلت : 29- 31) ثم يقول الله عز وجل {وَمَن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}(فصلت :32) بل إن أدق ما في القرآن الكريم في شأن العلاقة بين المؤمنين قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}(مريم :96) قال علماء التفسير: يجعل لهم ودا بين الله وبين عباده، أو يجعل لهم ودا فيما بين أنفسهم، وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
أعده للنشر ذ. عبد المجيد بالبصير
خبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي