ربــانـيـة الإســـلام


لربانية لغة مصدر صناعي منسوب إلى الرب كمصدر بمعنى التربية، أو إلى الرب كاسم من أسمائه الحسنى سبحانه، زيدت فيه الألف والنون للمبالغة في اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه، كما في اللحياني لعظيم اللحية والشعراني لكثير الشعر. ويراد بها في الاصطلاح الإسلامي معنيان اثنان:

المعنى المصدري

وهو انتساب الإسلام بتعاليمه عقيدة وشريعة وآدابا إلى الرب تعالى، إذ الإسلام، وهو جماع نعمة الهدى والرشاد، وارد منه سبحانه بمقتضى كونه ربا، أي متكفلا بمصالح الخلق، مستحقا لخالص الحمد “الحمد لله رب العالمين”.

المعنى المنهجي

وروعي فيه أساسا معنى التدريج، وهو وارد في سياقين:

أ- السياق التشريعي: وهو خاص بالرب سبحانه، ويراد به تعهده تعالى للبشر من خلقه بالهدى المنتظم، بما يبلغهم إلى كمالهم العبادي المطلوب بالتدريج، الذي يتجلى في خلالظاهرتين كبريين:

الأولى: ظاهرة النسخ: وهي تتعلق بالوحي الإلهي جملة، مقصود منها التدرج في البناء الرباني للنفوس أفرادا و أقواما ومجتمعات، وذلك بتغيير الأحكام الجزئية تبعا لتغير أحوال المصالح والمفاسد، بسبب تفاوت أعصار الشرائع السماوية عامة، وأوقات أحكام الشريعة الواحدة خاصة.

الثانية: ظاهرة التنجيم: وهي خاصة بالوحي المحمدي، إذ نزل عليه صلى الله عليه وسلم منجما، أي مفرقا {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}(üü). ومعنى التنزيل مناسب للتدريج “ولذلك قال العلامة الزمخشري في خطبة الكشاف: الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله على حسب المصالح منجما. فقال المحققون من شراحه: جمع بين أنزل ونزل لما في نزل من الدلالة على التكثير الذي يناسب ما أراده العلامة من التدريج والتنجيم”(1).

وإنما بني التدريج على التأصيل في الوحي المكي، ثم التكميل في الوحي المدني. قال الشاطبي رحمه الله “اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والتي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها: الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة، كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك، ونهى عن كل ما هو كفر، أو تابع للكفر.. ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واتسعت خطة الإسلام، كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج، كإصلاح ذات البين، والوفاء بالعقود، وتحريم المسكرات، وتحديد الحدود، التي تحفظ الأمور الضرورية، وما يكملها ويحسنها، ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص، وما أشبه ذلك تكميل للأصول الكلية”(2).

ب- السياق التنزيلي: أو الامتثالي وهو متعلق بأهل الإيمان استقبالا فإرسالا.

أما ربانية الاستقبال فيراد بها “مقاربة الكمال في مسلكالتخلق بأخلاق القرآن، والتحقق من صفتي التقوى والورع، من أجل تحصيل العلم بالله والتعرف إليه تعالى”(3).

وأما ربانية الإرسال فالمراد بها التصدي الحكيم للبناء التربوي والاجتماعي، بعكس النور الرباني على الواقع بعد الاستبصار به في النفس.

على أن كلا المعنيين الاستقبالي والإرسالي مقصود في قوله سبحانه {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} على القراءتين في “تَعْلَمُون” و”تُعَلِّمون”.

شروط ربانية التنزيل وثمراتها :

أما الشروط فيمكن تلخيصها في ثلاثة أمور:

- تحصيل العلم الرباني: وذلك بوراثة العلم بالكتاب والسنة وما استنبط منهما، حفظا وتدبرا. قال عليه السلام ((إن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)).

التخلق به في النفس والسلوك: أي عقيدة وعبادة وآدابا، إذ ذلك برهان الصدق والإخلاصالرباني ، الذي يرجى به وده سبحانه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}(آل عمران : üü).

- التماس الحكمة في إرساله: وذلك بفقه الواقع وسبر النفسيات، والنظر في المآلات لمعرفة مدى أثر الإرسال سلبا وإيجابا، ولأجل الدعوة إليه والتربية به عبر مناهج التربية والتكوين، وبرامج الإعلام والتوجيه وفق ما ينبغي كما وكيفا، إذ كل ذلك من مقتضى الحكمة  {ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.

وأما ثمراتها فيمكن تلخيصها في أمرين عظيمين أولهما أساس الثاني:

1- العلم بأمر الله: وهو العلم الرباني كما سبق، وبه يخرج الرباني عن داعية هواه، إذ يتحرر من العبودية لشهواته، ويقبل تشريعات الدين عن رضى واطمئنان، وفي الحديث ((لا يؤمن أحدكم حتى يوافق هواه ما جئت به)).

2- العلم بالله: “وهو نتاج لخالص الأعمال من العبادات والمجاهدات المترتبة عن العلم الأول”(4) إذ به يحكم الرباني معرفة غاية وجوده، فينضبط  لهداية فطرته، ويرعاه سبحانه بواسع رحمته. وقد ترجم أعلى مراتب هذا العلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح “إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا” فهو بذلك غاية الغايات. قال سفيان الثوري “أفضل العلم: العلم بالله والعلم بأمر الله”

—-

1- تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور “المقدمة الأولى” 1/11

2- الموافقات 3/102-103 نقلا عن البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ص50 .

3- مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ص 38.

4- نفسه ص 40.

  ذ. عبد المجيد بالبصير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>