قصة ابنيْ آدم (1)


قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ اَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الـمُتَّقِينَ  لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الاَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ اَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الاَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(المائدة: 27- 32).

تدور القصة حول ابني آدم وقتل أحدهما للآخر، وما كان وراء ذلك من الأسباب وما ترتب عليه من النتائج.

والقرآن الكريم كما نرى في هذه الآيات من سورة المائدة، لم يفصل كثيرا في هذه القصة؛ وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: “ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة.. وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن: “قابيل وهابيل” وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما، والنزاع على أختين لهما.. فإننا نؤثر أن نستبقي القصة -كما وردت – مجملة بدون تحديد. لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب – والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات”.

وبنـاء على الـقاعدة الـمقررة في هذا الـمقام وهي أن القصص يـراد لـما فيه مــن العبـرة؛ فإن ما ورد في القرآن الكريم عــن هذه القصة كاف فــي استخلاص مجموعة من العبر والفـوائد.

وتنقسم العبر المستفادة من هذه القصة إلى نوعين:

1- نوع نص عليه، وصار حكما عاما، وهو الموجود في قوله تعالى: {..مِنْ اَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.

2- نوع مبثوث في ثنايا القصة وهو ما سنجتهد في استخلاصه وبيانه.

ونبدأ بالنوع الثاني، ما دام ذلك النوع الأول جاء في نهاية القصة.

أولا: أن ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة هو الحق الخالص:

يستفاد ذلك مما يلي:

1- استعمال لفظ “نبأ” يقول السيد رشيد رضا في تفسيره: “النبأ: الخبر الصحيح الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام”. وقال الشيخ أبو زهرة في تفسيره: “النبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم خبر له شأنه”.

2- وصف تلاوة هذا النبأ بـكونها متلبسة بـ”الحق” في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحقِّ..} قال ابن عاشور في تفسيره: “والباء في قوله: {بالحقّ} للملابسة متعلِّقاً ب {اتْلُ}. والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت، والصدق هو الثّابت، والكذب لا ثبوت له في الواقع، كما قال: {نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ}(الكهف: 13). ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو. ويحتمل أن يكون قوله {بالحق} مشيراً إلى ما حفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه”.

ثانيا: أن التقرب إلى الله تعالى بأنواع القرب، قديم في النبوات:

فـما حكاه الله تعالى عن تقرب ابني آدم بذلك القربان، يدل على أن آدم عليه السلام كان يتعهد أولاده بالتربية على العبادة والتقرب إلى الله تعالى. غير أن تلقي ذريته لتلك التعاليم النبوية لم يكن بنفس الدرجة. فقد تلقاها بعضهم بالقبول حتى أثمرت الخير وما إليه من الأخلاق الكريمة، وهذا هو الذي يمثله الابن الصالح كما سيأتي. وتلقاها بعض آخر بما لا يليق حتى أثمرت الحقد والحسد وما إليهما من الأخلاق القبيحة، وهذا يمثله الابن الطالح كما سيأتي.

ولا نشك أن آدم عليه السلام قد استفاد من التجربة التي وقعت له مع إبليس، وهي التي دفع فيها آدم الثمن باهضا؛ فلَقَّن أولادَه الدروس المستفادة من تلك التجربة، وحذرهم من الوقوع في مصائد الشيطان أو التخلق بأخلاقه. وسوف نرى أن الابن الطالح لم يستفد من ذلك فوقع في قريب مما وقع فيه الشيطان، وهو داء الحسد.

والقربان المذكور في القصة هو كما قال الراغب في مفرداته: “ما يتقرب به إلى الله وصار في التعارف اسما للنسيكة التي هي الذبيحة، وجمعه قرابين”.

والقرآن الكريم لم يحدد نوع القربان الذي تقرب به ابنا آدم. لأن المقصود -بالأساس- ليس هو حجم القربان ولا شكله ولا قيمته؛ وإنما المقصود هو النية الباعثة عليه، والشعور المُصاحِب له، و”رب صائم حظه من صيامه الجوع ورب قائم حظه من قيامه السهر”(أخرجه الحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما.)  فذلك أول ما ينبغي تحريره.

ثم يأتي بعده النظر في حجم القربان وشكله وقيمته، فيتقرب بالأحسن في كل ذلك ما أمكن ذلك كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران : 92)، وروى الإمام البخاري عن أَنَس رضي الله عنه “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ”.

ثالثا: أن الانتساب الديني أنفع من الانتساب الطيني:

وذلك واضح في أن الابن الطالح لم يشفع له كونه ابناً لآدم النبي. وهذا مقرر في الشريعة قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}،(الحجرات : 13) وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : “ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه” قال النووي في شرحه على مسلم: “معناه من كان عمله ناقصا لم يُلحِقْه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويُقَصِّر في العمل”.

وروى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْاقْرَبِينَ} قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الـمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ (عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ) لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا”.

وهذا الحديث أصل عظيم تتأسس عليه نظرة الإسلام إلى مبدأ المسؤولية، وأن الإنسان يتحمل تبعات أعماله.

وقد تبَيَّن من خلال الآيات أن الابن الصالح قد استجمع تعاليم النبوة التي تلقاها من أبيه آدم، فقد كان عارفا بما يقرب من الله تعالى وما يبعد منه، وعلى هذا الأساس بنى نظرته إلى نفسه، وخطابه لأخيه.

رابعـا:  قَبُـول الأعمـال أو  رَدُّها بيـد الله عز وجل:

وذلك مستفاد من قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنَ احَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}، فهو سبحانه وحده المطلع على القلوب والنيات، وقد تقرر عند المحققين أن أحدا لا يستطيع الزعم بأن أعماله قد قُبلت. وقد عُبِّر في الآية بالفعل المبني للمجهول، كما قال سيد قطب في الظلال: “ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية؛ وإلى كيفية غيبية.. وهذه الصياغة تفيدنا أمرين:

الأول: ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير “العهد القديم”..

والثاني: الإيحاء بأنالذي قُبِل قربانُه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته.. فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه ! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال.. مجال العبادة والتقرب، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها..”.

خامسا : أن التقوى شرط في تقبل الأعمال:

أول ما يلاحظ هنا هو أن الله تعالى استعمل لفظ “التقبل”، فقال: {فتقبل}، ولم يستعمل لفظ {القبول} قال الإمام رشيد رضا: “والتقبل أخص من القبول لأنه تَرَقٍّ فيه إلى العناية بالمقبول والإثابة عليه”.

وقال أبو زهرة: “والتقبل معناه القبول بقوة من القابل سبحانه، فهو قبولٌ ورِضًى وترحيبٌ. وقد ذُكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذُكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه: {ولم يتقبل من الآخر} للمقابلة بين النفي والإثبات لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا فنفيه منصب على أصل القبول لا على وصفه”.

ثم قال الأخ الصالح: {إنما يتقبل الله من المتقين} وهاهنا اختلف العلماء، ومن أجمع ما قيل فيه قول الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره: “إنما صار أحد القربانين مقبولا والآخر مردودا لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال. قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق {إنما يتقبل الله من المتقين} وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى، والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام: “التقوى هاهنا” وأشار إلى القلب”.

د. مصطفى فوضيل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>