يطرح القرآن الكريم قصة الخليقة بأسلوبه الواضح الحاسم المبين.. فلا يكاد يترك، على إيجازه وتركيزه المعهودين، جانباً مهما فيها دون أن يشير إليه، ولا خطاً عريضاً فاصلا دون أن يطرحه بالعمق المطلوب.. فإذا ما قارنا بين هذه الصيغة التي يعرض بها القرآن الكريم لخلق البشرية وتحديد دورها ورسم مصيرها، وبين الصيغ الغامضة، المضطربة، المهوّشة، المترعة بالخيال والأساطير والظنون والتخمينات والأهواء.. والتي اعتمدتها المذاهب الوضعية والأديان المحرّفة، أدركنا بوضوح الفارق الكبير بين كلمات الله ومحاولات العبيد !!
يقول القرآن الكريم متحدثاً عن خلق آدم عليه السلام {وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة. قالوا : اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال : إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال : انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين، قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال : ألم اقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون،؟ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين، فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم، قلنا اهبطوا منها جميعا فإما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}..
تلك هي الخطوط العريضة، الواضحة، لمسألة الوجود البشري في الأرض. إننا من خلال هذا العرض المركز نلتقي بقواعد أساسية ومباديء كلية تتجاوز الجزئيات والتفاصيل، وتلقي ضوءها الشامل على كل ما يهمنا من مبادىء كبيرة من خلال الموقف القرآني : خلافة الإنسان عن الله في العالم، ومنحه القدرة على التعلم والفعل والاستيعاب، وتكريمه الأقصى بسجود الملائكة له، مجابهته بإبليس وبدء الصراع بين الطرفين، والهبوط الزمني الموقوت إلى الأرض كأول تجربة من تجارب هذا الصراع.. تعليق الدور البشري في الأرض على تلقي الهدى من الله وحده، وتحديد المصير الذي سيؤول إليه موقف الإنسان الحرّ إزاء هذا الهدى في الأرض والسماء..
لقد أراد الله للإنسان أن يستخلف في الأرض، فمنحه القدرة العقلية على التعلم، والمقدرة الجسدية على التنفيذ والعمل والإبداع، والإرادة الحرة لاختيار أسلوب الحياة التي يقوده إليها فكره ودوافعه النفسية والجسدية.. ولكي لا يحس الإنسان بالدونية ولا تدور في خاطره أية فكرة عن سلبية دوره في العالم، رفعت مكانته إلى أعلى مصاف وطلب من الملائكة أن يسجدوا له.. وتلك هي أسس تقود ولا ريب إلى تصور دور الإنسان في العالم كقوة فاعلة، مفكرة، مريدة، منفذة، مستقلة، مفضلة.. فإذا ما أضفنا إلى هذا ما أكد عليه القرآن الكريم في حشود من آياته البينات من تسخير العالم للإنسان وتمهيده لأداء الدور البشري على أرضيته، ومن تأجيج الصراع بين الإنسان والشيطان لدفع الحركة البشرية إلى الأمام إزاء هذا التحدي، ومن خطورة التعاليم الإلهية والمناهج الدينية التي كانت تتنزل حينا بعد حين لكي تضبط وتنظم حركة الإنسان في الأرض.. أدركنا كم هي عميقة شاملة متكاملة الأسس والمقومات التي منحت للبشرية لكي تعتمدها في ممارسة خلافتها في الأرض.
ومسألة الاستخلاف التي هي قاعدة الوجود البشري في الأرض، تتكرر أكثر من مرة في كتاب الله ونحن نقرأ على سبيل المثال {هو الذي جعلكم خلائف في الارض، فمن كفر فعليه كفره..)} {هو الذي جعلكم خلائف في الارض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم..} {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} {ويجعلكم خلفاء الارض، أاله مع الله؟ قليلا ما تذكرون} {وعد الله الذين آمنوا منكم، وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}..
فالإيمان بالله سبحانه، والعمل الصالح المستمد من هذا الإيمان والمتوجه إلى الله وحده، هما قاعدتا الاستخلاف. وأي إخلال بأحد هذين الركنين، أو كليهما، سيؤول ولاشك إلى خلل في شروط الاستخلاف، وبالتالي إلى تنازل الجماعة المستخلفة عن مركزها القيادي والتراجع إلى الخطوط الخلفية لكي تمارس التبعية للجماعات الأكثر قدرة على الالتزام، بعد أن كانت متبوعة مطاعة : {فإن تولوا فقد ابلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ} {ألم تر أن الله خلق السماوات والارض بالحق ان يشأ يذهبكم ويات بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز} {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون، على أن نبدّل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين}..
والقرآن الكريم يحذر الجماعة المسلمة نفسها من الإخلال بشروط الاستخلاف وإلا فليس أيسر على الله من استبدالها {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} {إلا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير}.. وصدق الله العظيم
أ. د. عماد الدين خليل