رياح الثورة اللواقح في بلاد العرب وعودة الروح


تمر الأمة العربية اليوم بمنعطف حاسم في حياتها، يتمثل في ظهور تباشير التحرر والانعتاق التي تلوح في الأفق كما تلوح تباشير الصبح بعد ليل مدلهم طويل، {أليس الصبح بقريب}؟!

وكأني اليوم بهذه الأمة بعد أن خيم عليها اليأس دهرا طويلا، وران على كيانها غلاف سميك من أغلال الروح، لقاء ما كسبت أيدي الناس، تهب عليها رياح لواقح من الوعي العميق بذاتها المنكوبة، وبجرحها الغائر الذي ظل ينزف بلا انقطاع.

إن الذين يغفلون عن سنن الله في الاجتماع البشري، قد يتطرق إلى نفوسهم حال الغفلة أو جراء اليأس الناجم عن تطاول آماد التحجر والجمود، أن الشعوب قد يقف نبضها وتتعرض للموت والانقراض، غير أن وقائع التاريخ المشهودة سرعان ما تنتصب لدرء مثل هذه الهواجس والظنون، ولتأكيد السنن الراسخة التي لا تتخلف أبدا، رغمتخرصات المخرصين، وأغراض المغرضين.

إن اللحظة التاريخية الفارقة التي نعيشها اليوم، تؤكد أننا نشهد صفحة من الصفحات المشرقة التي كتبت بمداد الألم والمعاناة، الممزوج بدموع الثكالى ودماء المستضعفين، وستسفر بعد حين عن كشف الغمة، وتحرير الأمة، مما تراكم على كيانها من قيود وأغلال، ووضع قطارها على المسار الصحيح المؤدي إلى الهدف المنشود.

سيحفظ سجل التاريخ الخالد أن الأمة العربية المسلمة كانت في مفتتح الثلث الثاني من القرن الخامس عشر الهجري: 1432، ومفتتح العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، على موعد مع انتفاضات مباركة في ربوع العالم العربي المنكوب، انطلقت طلائعها على بركة الله لإنجاز عملية التحرير والتطهير، الكفيلة بإرجاع الحق لأهله والأمر إلى نصابه.

لقد كان لا بد للوحة الكئيبة القاتمة التي مثلتها الأوضاع المزرية في عالمنا العربي أن ينبثق من بين ثناياها وأطرافها تباشير الضياء، الذي سينساح بعد حين في سائر الأرجاء، وذلك حين اكتمال النصاب.

لقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون الريادة من شعب صغير عددا ولكنه كبير همة وقدرا، إنه شعب تونس الخضراء، الذي انطلق في لحظة تاريخية فريدة كالإعصار، ليقتلع مثل السوء وشجرة السوء التي أذاقت أهل تونس العلقم، وحولت حياتهم إلى جحيم، بسبب خطة جهنمية أقامها النظام البائد لكتم أنفاسهم وزرع الخوف فيما بينهم، وتفكيك رابطتهم وكيانهم، حتى ينفرط شملهم، وينظر بعضهم لبعض نظرة التوجس والعداء.

لقد شكلت عملية تجفيف منابع التدين العمود الفقري لسياسة طاغية تونس، فاقتفى في ذلك أثر سلفه في الفسق وفي الاستخفاف بقداسة شهر الصيام، بالتشجيع على انتهاك حرمته بترك أبواب المطاعم والمقاهي والخمارات وغيرها من أماكن الفجور مشرعة ليعصى الله جهارا نهارا، وأضاف إلى ذلك ما جعله يتفوق في الرعونة والتهتك تجاه شرع الله العزيز الجبار، فكان له عدوان رهيب على الصلاة بترهيب المصلين وتعقب حركاتهم وسكناتهم إلى الدرجة التي جعلت الرقباء العتاة المغروزين كالخناجر في خواصر المواطنين، يجردون لوائح بأسماء رواد الفجر، ليوسموا بعلامة الخطر، فيصنفوا في خانة الملاحقين المحذور جانبهم باعتبارهم إرهابيين بامتياز. وإمعانا في ضبط حركات المصلين، خصصت لكل واحد منهم بطاقة ممغنطة تحدد المسجد الوحيد الذي لا ينبغي أن يبرحه إلى غيره، خشية أن يفلت من حبل الرقابة الصارمة التي تجثم كالكابوس المرعب على صدور أفراد الشعب.

واستكمل طاغية تونس عدوانه على أركان الإسلام، بحرمان التونسيين من التوجه إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، متذرعا بأكذوبة أنفلوانزا الخنازير السيئة الذكر، وشفى بذلك غليله وقلبه الأسود الشقي الذي أشرب كراهية كل مظهر من مظاهر الإسلام، الذي يشهد كل معلم من معالم تونس البهية أنه من نتاجه ومفاخره.

أما اللباس الشرعي أو الحجاب، فقد اعتبر هو أيضا من المحظورات في ظل النظام الديكتاتوري البشع، الأمر الذي عرض كل من آثرت التستر والتحجب من البنات والنساء، لممارسة فاحشة السوء، ولكل أنواع الإهانة والانتقام.

كما شاءت الإرادة الإلهية أن يمتد لهيب هبة تونس إلى أرض الكنانة: مصر ذات العراقة والتاريخ المجيد، وانتصب الأزهر الشامخ كما الزيتونة المضيئة، ليشع ببهائه الساطع على “ميدان التحرير” الذي احتشدت به جموع الناقمين على نظام هرم منخور، حفر أخدودا عميقا وهوة سحيقة بينه وبين الشعب، بسبب تنكره لحقوقه في العيش الكريم، وفي أخذ زمامه بيده، والتعبير الحر عن موقفه الأصيل، وحماية مصلحته العليا.

لقد جثم فرعون مصر الحديث، من خلال نظامه الرهيب، على صدور المصريين طيلة ثلث قرن من الزمان، وصل فيها الشعب المقهور، إلى أقصى دركات البؤس والحرمان على المستوى المعاشي والاجتماعي، وإلى حالةمريعة من الذل والانكسار على المستوى المعنوي، بسبب فرض اتفاقية استسلام ظالمة ومهينة مع الكيان اليهودي الغاصب، كبلت أيدي الشعب عن القيام بواجبه تجاه إخوانه في غزة بخاصة وفلسطين بعامة، وأكرهته على البقاء مكتوف الأيدي إزاء ما تعرض ويتعرض له أهل غزة الشرفاء من قهر وحصار، زاد من بشاعته تورط النظام المصري نفسه، في المشاركة السافرة فيه، بإقامة الجدار الفولاذي البغيض حول شعب غزة تحت الأرض على رفح الحدودية، إمعانا في خنق الثلة المؤمنة المرابطة وقطع أنفاسها، كل ذلك في مقابل تمديد عمر الفرعون ، والإبقاء على مخالبه ناشبة في جسم الشعب، تفعل به الأفاعيل، ولقاء رشاوى وعمولات مسمومة يقبضها من الأمريكان، حماة الكيان الصهيوني المعتدي.

إلا أن دوام الحال من المحال، فمن القوانين الثابتة في الطبيعة والعمران البشري على حد سواء، أن الضغط إذا بلغ مداه أدى حتما إلى الانفجار، لأن طعم الحياة في ظل الظلم والجبروت، وتعرض كرامة الناس إلى الإهدار، يصبح بالغ المرارة إلى الحد الذي يغدو معه الاستمرار على ذلك الوضع المهين عذابا ممضا تستعذب بإزائه التضحيات وبذل الدماء، واسترخاص الأرواح، عندما يكون ذلك هو المخرج الوحيد من الأزمة الخانقة والذل المشين، والطريق الأوحد المتاح، لاسترجاع الكرامة المهدورة.

وقد كانت انتفاضة تونس المباركة التي أدت إلى كنس طاغيتها ملوما مدحورا وتمكنت من مسح العار، كما كانت انتفاضة مصر العظمى التي هزت أركان النظام الفرعوني الظالم، تمهيدا للتطويح به في” جمعة الرحيل”، ترجمة لذلك القانون الاجتماعي الذي لا يتخلف، ودليلا قاطعا على أن الشعوب يمكن أن تعيش حالة استكانة وتخدير وكمون، ولكن إلى حين، فسرعان ما يؤدي توالي ضربات القهر ولسعات الحرمان، ووجبات الذل والامتهان، إلى اليقظة والانتفاض، ثم الانقضاض، على من جرعوه كؤوس الذل وأذاقوه صنوف الاحتقار وألوان التنكيل والعذاب، وذلك دليل أيضا على أنه لا مفر لأي نظام حاكم، إذا أراد أن يباركه الله عز وجل، وأن يستقيم أمره وتحمد سيرته، أن يلزم جانب العدل والصلاح والإصلاح، وأن يتأسس على الشورى التي تعصمه من الزيغ والانحراف، والشطط والإسراف.

كما أن من دعائم النظام الذي يرجى له المجد والدوام، وأن يكون مصدر أمن وسلم ووئام، أن يكون المحور الذي يدور حوله، والمنبع الذي يستمد منه والمعين الذي يغرف منه، هو قيم الأمة الخالدة وميراثها الأصيل، الذي شكل قوام وجودها وسؤددها وظهورها على الناس عبر العصور. وفي حالة العكس، لا مفر من اختلال الموازين واضطراب الأحوال، وتراكم عوامل النقمة والكراهية والانفجار، ثم السقوط والانهيار.

وترشدنا مجريات هذه الانتفاضات المباركة ومشاهدها المثيرة إلى أن قدر الأنظمة الحاكمة إذا أرادت لنفسها السلامة وحسن الأحدوثة وطيب الذكر، أن تلتحم مع شعوبها برباط الرحمة والتعاطف والحنان، وآصرة التعاون على البر والتقوى، وتسير على إيقاع واحد يصب في اتجاه مصلحة الأمة وخيرها، وتعزيز قوتها ونفوذها، وخدمة سعادة أفرادها وأمنهم واطمئنانهم.

ولقد آن الأوان، لأن تراجع كل الأوراق من الشعوب والحكام على حد سواء، بما يؤدي إلى تصحيح الأوضاع، واستعادة الزمام، ورسم خريطة طريق واضحة المعالم والأهداف، مراعية للأولويات، في عالم يتربص به الذئاب ببشرية تائهة ممزقة الأوصال، ولعل إرهاصات، بل بوادر تحول جذري وعميق، ترتسم في أفق عالمنا العربي الحبيب الذي شكل مهد الرسالات والحضارات والدعوات الكبرى لتحرير الإنسانية من سلطان الطواغيت، وصدق الله القائل في محكم التنزيل: {ولتعلمن نبأه بعد حين}(ص:88) صدق الله العظيم.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>