اللغة العربية وسؤالُ المعرفَة في سياق تحقيق الأمن الثقافي


علاقة اللغة بالتنمية

يُعدّ سؤالُ المعرفة وأثرِها في التّنمية وتحقيق الأمن الثقافي للبلادِ سُؤالاً مركزياً في صميم الحديث عن التّنمية البشريّة، لوجود علاقةٍ جدليّة بين نسقِ المعرفة وسياقاتِ التّنمية الاقتصادية والاجتماعيّة…

وتُعدّ أسئلةُ اللّغة حرِجةً لأنّها تخصّ مجالاتِ عديدةً كالتّربية والتّعليم والتّفكيرِ والثّقافَة والتّواصُل والاقتصادِ والذّاكِرة والدّينِ والهويةِ… ويحتاجُ تدبيرُ شأنِ هذه الأسئلةِ وإعدادُ أجوبةٍ ملائمةٍ لها إلى رؤيةٍ شموليّةٍ واضحةٍ مُتماسكةٍ…

تُعدُّ اللغة العربيّة وطناً للمعرفة، شأنُها في ذلك شأنُ اللغاتِ الطّبيعيّة التي لها رصيدٌ علمي وثقافي وإسهام في تنمية المعارف البشرية وانخراط في بناء القيم الإيجابيّة .

ولا يُمكن النهوض بلغة من اللغات الطّبيعيّة إلا ضمنَ ثقافة الأمة التي تتداول هذه اللغةَ. ولا يمكن النهوض بالعربية إلاّ ضمنَ الخلفيّة الثّقافية للأمّة العربية الإسلامية، باعتبارِ هذه الخلفيّةِ محوراً أساسا تدورُ حولَه التّنمية، وتتبوّأ اللّغةُ الموقعَ المركزيّ في المنظومَة الثّقافيّة لارتباطِها بالفكر والإبداع والعَقيدة والتّراث، والذي يسوّغ تناولَ اللّغة في إطارِ المنظومة المعرفيّة الثّقافيّة أنّها لا تنمو في فراغٍ، بل في مجتمَع له سياقه الثّقافي وبعده التّاريخيّ، وهوتناوُل جيّد لأنّه لا يقف عندَ تناوُلِ اللّغة على أساس تقنيّ محض خارجٍ عن سياق المجتمَع المؤثّر.

منظومَةُ اللّغة العربيّة بما تتضمّنه من قيمٍ دينيّة وثقافيّة وأدبيّة وأخلاقيّة، هي مناطُ الأملِ في بعثِ منظومةِ المعرفةِ العربيّة وإحيائها وتنميتِها، وربطها بالتّنمية الحديثة، حتّى تصبحَ العربيّة بالتّعريب للعلوم والتّكنولوجيا، تؤدّي مهمّةً فاعلةً في النّموّ الحقيقيّ للاقتصاد العربيّ، وذلك بتحويله من اقتصاد الرّيع المتواكلِ علميا إلى اقتصاد أصيلٍ ينمو نموّا مستداماً.

التّنمية البشريّة مجموعُ برامجَ تهدف إلى تحسين أوضاع الإنسان الاجتماعيّة والاقتصادية والمعرفيّة، وتتّجه التّنمية البشرية اليومَ نحو ربط التّنمية باقتصاد المعرفة، وهواقتصاد مبنيّ على المعرفة، تزداد فيه نسبة القيمة المعرفية ازديادا كبيرا، حيثُ أصبحت فيه السّلع المعرفيّة أوسلع المعلوماتِ من السّلع الهامّة جدا، وتساعد تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات في نموّ اقتصاد المعرفة، وقد أصبحَ العالم يشهدُ ازدياداً مضطرداً لدور المعرفة والمعلومات في الاقتصاد : فالمعرفة أصبحت محرك الإنتاج والنموالاقتصادي كما أصبح مبدأ التركيز على المعلومات والتكنولوجيا كعامل من العوامل الأساسية في الاقتصاد من الأمور المسلم بها. وبدأنا نسمع بمصطلحات تعكس هذه التوجهات مثل “مجتمع المعلومات “وثورة المعلومات” و”اقتصاد المعرفة” و”اقتصاد التعليم” وغيرها. إن الكثير من المعلومات يرمز لها عادة في وعاء اللغة، ومن هنا تبرز أهمية مسألة التعريب وخاصة التعريب في  مجالات تكنولوجيا المعلومات.

وتأخذ مسألة التّعريب بُعدا أكبرَ ممّا كانت عليه سابقا؛ إذ أصبح التعريب مرتبطاً بالاقتصاد والتنمية أكثر من أي وقت مضى. ويقدّم التّعريب في تكنولوجيا المعلوماتِ فرصا اقتصادية هامّة للوطن العربي، وأهمّية اللّغة العربية في تكنولوجيا المعلوماتِ مركزيّة لأنها تقدّم المعلومات العلمية باللّسان العربيّ، وسيدفعُ تعريبُ المجالات العلمية والاقتصادية، باللّغة العربية إلى التّحديث المستمرّ من أجل تطوير دور العربية في التداول العلميّ والاقتصادي.

وجهان لعلاقةِ اللّغة بالاقتصادِ

الوجهُ الأوّلُ : أنّ الكلمةَ في ميدانِ اللّغة كالمالِ في مَيْدانِ الاقتصادِ؛ فلا شكّ أنّ الكلماتِ تُصاغُ كَما تُسكُّ العُمْلاتُ، وتظلّ مُتَداوَلَةً ما دامتْ سارِيَةَ المَفْعولِ؛ فالكلماتُ عُمْلةُ التّفكير، ونملكُ منها أرصدةً بقدرِ امتلاكِنا لناصيةِ لغةٍ معيّنةٍ، مثلَما نملكُ من المالِ أرصدةً تمكِّنُنا من التّداولِ الاقْتصاديّ، فالكلِماتُ اللغويّةُ والمالُ كلاهُما أمرٌ اصطلاحيّ وأداةٌ تمكّنُ من تبادُلِ السِّلَعِ سواء أكانت هذه السّلَعُ معنويّةً فكريّةً أم كانت سلَعاً مادّيةً.

ويُمكن أن نُجْرِيَ موازناتٍ كثيرة بين ميدان الكلماتِ وميدانِ المالِ، من حيثُ كونهما رصيدَيْن لمُستعمِليهِما، ومن حيثُ ما يقومانِ بِه من وظائفَ وأغراضٍ، ومن حيثُ ما يُصابانِ بِه من تضخّمٍ أونُدْرَةٍ، ومن حيثُ ارتباطُ التّقدّمِ في مجموعةٍ من البُلْدانِ ذاتِ القواسمِ المشتَركَة بتوحيدِ عُمْلاتِها ولُغاتِها، ضمنَ حاجةِ هاتِه البُلْدانِ إلى التّكتّلِ والتَّجانُسِ؛ فاللّغة المشتَرَكة بين مجموعةٍ من البُلدانِ تعبيرٌ عن مستوى تطوّريّ جديد للأنظمةِ الاجتماعيّة التي تتميّزُ بشبكةٍ من العلاقاتِ التّواصليّة المُتَبادَلَة…

أمّا الوجهُ الثّاني لهذه العَلاقَةِ فإنّ الوظيفةَ الاقتصاديةَ للغة تتركّزُ في استعمالها في المجالات الاقتصادية بكفاءة عالية، فتوظيف اللغة في المجال الاقتصادي بمردودية عالية يُعدّ شرطا من شروط تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بالنظر إلى ما تحمله اللغة من قُوى إنجازيّة وطاقات وظيفية، كوظيفة التّواصل والتبادُل، ووظيفة نقلِ المعرفة وتداوُلِها، ووظيفة التعاوُن، ووظيفة التّعلّم…

موقع اللغة العربية  من مجالات الاستثمار

المُلاحَظ في ذلك ضعف اقتصاد المعرفة في الوطن العربي، وهذا الضّعف راجع إلى قلّة استثمار المعرفة اللغويّة العربية في مجال إعداد البرمجيّات والبرامج الإلكترونية والبرامج التعليمية ومعالَجَة النصوص والتّرجمة الفوريّة والذّكاء الاصطناعي وغيرِها من مجالات استثمار المعرفة اللغوية…

صحيح لقد وُضعت برامجُ لتقنيات المعلومات والاتّصالات المتعلّقة بالتّنمية في المنطقة العربية، ومشاريعُ تعليميّة لتطوير الأداء لبرامج التّدريس، ولكنّها برامجُ ومشاريعُ تنتظر التّنفيذَ والتّمكينَ، بقرارات سياسية نافذة. ويظل المجتمَعُ العربي في حاجة إلى الوعي العميق بقيمة اللغة العربية، باعتبارِها ركنا أساساً في بناء مجتمَع المعرفة العربي، وركنا أساساً في بناء اقتصاد المعرفة العربي، وركنا أساساً في نشر تكنولوجيا المعلومات للوصول إلى ما يُعرَف بمجتمَع المعلومات؛ لأنّ تداولَ المعلومات باللغة الأجنبيّة لن يُنشئ مجتمعَ المعلوماتِ، بل يُلحِق المجتمَع المستهْلِكَ بلغة الاستهلاك والتواصل.

وإذا تساءلنا عن مدى قدرةِ العربية على أن تتولّى حملَ مشروع المعرفة والتّنمية المعرفيّة، فالجوابُ أنّها أثبتت قدرةً فائقةً على حملِ أرقى المعارفِ الإنسانيّة حينَ قامَت حركةُ تعريبٍ عربيّة ارتبطت بمدرسة علميّة عربية قادرةٍ على إنتاج المعرفة.

> وفي التّجاربِ التّاريخيّة التي أتيحَت للمجتمع العربيّ ليتحوّلَ إلى مجتمَع معرفةٍ، نهَضَ العلمُ باللغة العربية، ونهضت اللغة العربية به، فتحوّلت العربية من لغة بعض القبائل في الجزيرة العربية ينشدون بها الشّعرَ والأدب في عُكاظ… إلى لغة المعرفة والعلم والجدلِ والاجتهاد، بفعلِ معجزةِ القرآن الكريم الذي نزل بها فرفَعَها، وبفعل عقيدة التّسامُح والتحرّر والتّفكير، التي اعتنَقَها كثير من العلماء غير العرَب، فنَقلوا إلى العربيّة ما لم يكن فيها من العلوم.

> اللغة العربية لها علاقةٌ وطيدة بمجتمع المعرفة والنّهضة عبر التّاريخ، منذ عهدِ العبّاسيين والأندلسيين والنّهضة الحديثة. لكنّها باتت تعاني التّرسّباتِ السياسية والمجتمعيّة والثّقافيّة والتّعليميّة المُعيقة لقيام مجتمع المعرفة، مما جعَلَها تعكسُ تقاعُسَ أهلِها عن النهوض بها، والأمرُ الأخطرُ الذي يُخشى منه أن يؤولَ الوضعُ إلى مجتمع بدونِ لغة، مما يستحيلُ معه تصوّرُ أي نموّ معرفيّ معمَّم، يرفع من القدرة على الإنتاج والتّنافُس.

التعريب والمعرفة

تتجه المعلومات المرمزة لتصبح من ركائز الاقتصاد الأساسية، والتعامل مع المعلومات يتطلب التعامل مع اللغات، وتوفر المعلومات في اللغة الأم يسهل هذا التعامل . إن توليد المعلومات ونقلَها ونشرها واستثمارها يتطلب معرفة اللغة الأجنبية المتداوَلَة التي  يتوفر فيها القدر الأكبر من المعرفة حالياً، ولكنّ توسيعَ انتشار المعرفة واستثمارها لدى كافة طبقات الأمة يتطلب التعريب .

فالتعريب توجّه هام خاصة في مجالي  نشر المعلوماتِ واستعمالها أكثر منه في مجالي توليد المعلومات ونقلِها. وتعريب المعرفة اللازمة  للأمة أصبح من ضرورات  التنمية أكثر  من أي وقت مضى.

لا يخرج التعريب عن البرامج العامة للبحث العلمي في الجامعات والأكاديميات، أمّا واقع اللغة العربية والبحث العلمي في جامعاتنا فيطبعها:

- سياسة لغوية تغريبية في كثير من البلدان العربية، قفزت باللغة العربية إلى المرتبة الثّانية أوالثالثة، وألقت بها في ظروف صَعبَة فيما يتعلّق بالبحث العلمي، عندما حلّت محلّها اللغات الأجنبية المواكبة للتنمية البشرية التي حدّت من فعاليتها.

- إهمال التّكوين المستمرّ للأستاذ الباحث من أجل تطوير طرائق تدريسه ومعلوماته بأحدث الأساليب وبمساعدة خبراء في اللغة

- تراكُم التّجارب الفاشلة في ميدان إصلاح التّعليم في كثير من البلدان العربية، ولا تزال فلسفة التعليم غير واضحة المَعالم عند أوصياء التعليم، ولا يزال تدريس اللغة العربية وما يتّصل بها من آداب ومعارفَ يُعاني أزمات شتّى.

خلاصات عن علاقات اللغة العربية بالتنمية

والذي نخلص إليه بعد عرض علاقة اللغة العربية بالتنمية المعرفية هو ضرورة تعميق الشّعور لدى الطّلاّب والباحثين بمركزيّة اللّغة في إقامة مجتمَع المعرفة، وأهمّية اللغة في معادَلَة: اللغة العربية والتنمية البشرية، والاجتهاد المُستَدام لجعلِ اللغة العربية لغةَ التفكير والتعبير والتنمية الثّقافية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية.

ولا يتمّ استشعارُ هذه الأهمّية إلا بحركةٍ تعريبيّةٍ شاملةٍ تحقِّقُ للأمّةِ نهضتَها، ولا تقفُ عندَ مجرّدِ إحلالِ العربيّةِ محلَّ الأجنبيّة في الإدارةِ والتّعليمِ والاقتصادِ، بل تَتَعدّى “تعريبَ التّعبيرِ” إلى “تعريبِ التّفكيرِ”. والمقصودُ بتعريبِ التّفكيرِ ممارسةُ التّفكيرِ بطريقةٍ تراعي خصائصَ المجتمعِ العربيِّ برمّتِه، وتقوّي الشّعورَ بالانتماءِ إليه بدلاً من الانحصارِ في دائرةِ القوميّةِ الضّيّقةِ، ذاتِ النّزعةِ الانفصاليّةِ .

والتّعريبُ المرجوُّ -أيضًا – هوالذي يُخلِّصُ الأمّةَ من الاتّباعِ الفكريِّ والثّقافيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ للغربِ، ويضمنُ لها خصوصيّتَها وتفرّدَها وإثباتَ ذاتِها، ويُتيحُ لها حرّيةَ التّصرّفِ والانفتاحِ على الآخَرِ في إطارِ المُثاقفةِ والتّبادلِ، لاختيارِ ما ينفعُها ويُناسبُها، من دونِ فرضٍ ولا إكراهٍ.

والتّعريبُ المرجوُّ أيضًا، هوالذي يؤلِّفُ بينَ فئاتِ الشّعبِ العربيِّ اجتماعيًّا وفكريًّا، ويوحّدُ وجهاتِ أنظارِهم، أو-على الأقلِّ- يقلّلُ من الفروقِ والخلافاتِ بينهم  ويضمنُ للمعارفِ والعلومِ انتشارًا واسعًا، باللّغةِ الأمّ. أمّا بقاءُ تداولِ المعارفِ والعلومِ باللّغاتِ الأجنبيّةِ، فسيحصرُها في حدودِ فئةٍ ضيّقةٍ، هي فئةُ النّاطقينَ بتلك اللّغاتِ، ويُحْرَمُ منها النّاطقونَ بالعربيّةِ؛ فتكون اللّغةُ الأجنبيّةُ حاجزًا كبيرًا يعوقُ انتشارَ المعارفِ التي حقٌّ مشاعٌ بين النّاسِ.

والتّعريبُ المرجوُّ هوالذي يُرادُ منه للعربيّةِ أن تتبوَّأَ مكانَها الطّبيعيَّ، فتكونَ اللّغةَ الأولى في الحياةِ والمجتمعِ والعلمِ والتّعليمِ . أمّا اللّغةُ الأجنبيّةُ فينبغي أن تُعطى قدرَ ما تستحقُّ، دونَ تغليبِها على اللّغةِ الأمّ. والأمثلةُ على تداولِ العلمِ والمعرفةِ باللّغةِ الأمّ كثيرةٌ جدًّا ؛ فقد استعرضَ الباحثون المهتمّون بقضيّةِ تعريبِ العلومِ في الجامعاتِ، أمثلةً مناسبةً، منها نموذجُ الدّانمارك الذي يدرّس موادّه في التّعليمِ بلغتِه، مع العلمِ أنّه لا صلةَ له باللّغاتِ اللاّتينيّة أوالأنجلوساكسونيّة المعروفة، ونموذج اللّغتين الهنغاريّة والفنلنديّة ونموذج اليابانِ الذي يشهدُ بتفوّقِ اللّغةِ والتّقانةِ اليابانيّتين على الصّعيدِ الاقتصادي والعلميّ العالميّينِ، وكذلك النّموذج الصّينيّ…..

أمّا العربيّةُ فإنّها مؤهّلةٌ لأن تتبوّأَ مكانتَها في مضمارِ تعريبِ العلومِ وتداولِها، أكثر من غيرِها، وخاصّةً أنّها كانت في عهدٍ تاريخيٍّ غيرِ بعيدٍ إحدى اللّغاتِ القليلةِ لمن أرادَ أن يتعلّمَ العلومَ، ووسيلةً للانفتاحِ على العالَم .

ولا يتمّ استشعارُ أهمّية اللغة العربيّةِ في معادَلَة: اللغة العربية والتنمية البشرية – أيضاً- إلاّ بالتدريب الفردي والجماعي على اتّخاذ اللغة العربية الفصيحَة لغةَ التفكيرِ والتّعبير والتواصل والتّداوُل، وتوظيفها في جميع المواقف والشؤون التي لها ارتباط بالتنمية البشرية الفردية والاجتماعيّة.

د. عبد الرحمن بودرع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>