التوحد الذي يمنحنا إياه الإسلام


إن كثيراً من المذاهب الوضعية التي ترفض المنهج الديني في واقع الحياة تدفع الإنسان، بسبب من عدم توحدها وضياع هدفها، إلى حالة صعبة من الشعور القاسي بالتمزق.. بأنه ليس شخصية واحدة تتجه بكليتها نحو هدف واحد.. وبأنه أشتات يرتبط كل منها بهدف لا علاقة له بالأهداف الأخرى، وبأنه أنفس عديدة لا نفس واحدة، وبأنه بعيد عن مصيره غير متوحد معه.. وهذا الشعور يؤدي بالضرورة إلى عدد من المشاعر والأفكار والمواقف السلبية كالعبث والضياع والتمزق وازدواج الشخصية وعدم الإحساس بالائتمان..

نقرأ هذا في معطيات وأبطال فلاسفة من مثل كيركغارد ومارسيل وسارتر ودستوفسكي وكافكا وشتاينبك وريلكه وفتزجرالد وهمنغواي وكامو وألبرتو مورافيا.. وغيرهم.. وكأنه قد كتب على الإنسان أن يفقد توحده كإنسان وأن يظل ممزقاً ومشتتا.. (إنني أجد نفسي الآن -يقول أحدهم- مقسّما إلى أجزاء.. لقد بلغت منتهى الإنهاك.. إنني أرى الآن فرقا كاملةً من أفكاري وأعمالي ومشاعري تصطف حولي وكأنها مخلوقات منفصلة ناظرة كالغربان إلى الشيء الذي أعطاها الحياة وهو يمر بينها)!!

بل إننا نقرؤه في معطيات الأجداد القدماء للغربيين.. إنهم كانوا -بلا منهج ديني- يعانون الأزمة نفسها.. إن سقراط ليتساءل ” هل حالة الإنسان في مختلف الأحوال متسقة؟ أو أنه في ضغينة وحرب مع نفسه في أعماله ؟ كما كان في ضغينة، وفيه آراء متضادة في الوقت الواحد، في موضوعات واحدة مما يتعلق ببصره ؟ ” ثم يعود فيجيب ” على أنني أتذكر أنه لا حاجة إلى اتفاقنا في هذا الموضوع الآن، لأننا قد فصلنا في هذا فصلاً كافيا في المحادثات الماضية التي فيها سلمنا بأن أنفسنا مملوءة بما لا يحصى من المتناقضات في وقت واحد”.

إنه تناقض باطني قاس يمزق الأنا إلى مجموعة كبيرة متضاربة فيما بينها، لا تلتئم في وحدة متناسقة ولا تعاني تجربتها الشعورية بشكل متوازن.. وإذا ما أحسّ الإنسان بهذا التناقض في أعماقه فإنه، بالإضافة إلى عذابه، سوف يفتقد معقولية أية حركةٍ يمارسها أو اتجاه يلتزم به.. انه حينئذ سوف يدرك أن كل القيم عبثية وأنه مهما جاهد فإنه سوف لا يكون أكثر من سيزيف المسكين.. “بعد التجربة العبثية -يقول كامي- تنهار جميع الأهداف وتسقط جميع المبادىء، إنها لا معنى لها بعد..”

..وكمواقفه دائما حيال الأزمات، يتسم موقف الإسلام هنا بالعمق والأصالة.. حيث يقدم للإنسان تجربة (التوازن) بين القيم المادية والقيم الروحية، وحيث يسد الطرق أمام حدوث انحرافات من شأنها أن تحد من فعالية إحدى هاتين الناحيتين، وحيث يضفي صفة الفاعلية والإيجابية على سائر القيم والممارسات الروحية والمادية.. فهو يقرر بأنه ما دام الإنسان (نسيج وحده) من حشد من العناصر المادية والروحية، وأن هذا النسيج متداخل في كيان الإنسان لا فواصل بينه ولا انفصام، فان الإنسان يجب أن يتعامل مع مبادىء تنسجم مع طبيعته فتعترف أولاً بإيجابية كلا الطرفين، وتقدم ثانياً منهجها الذي ينسجم وهذا التكوين، وبهذا يشعر الإنسان المسلم بأنه في جميع ممارساته، ماديةً كانت أم روحيةً، أم عقليةً، متوحد مع ذاته من جهة ومع مصيره من جهة أخرى، لأنه إنما يقوم بممارساته تلك داخل الأطر العقيدية التي جاء بها الإسلام، والتي بالإضافة إلى تحقيقها الحد المرتجى من السعادة للإنسان في الأرض، فإنها تعده بالنعيم والخلود في الحياة الأخرى.

وهكذا يبتعد الإنسان المسلم بالضرورة عن الشعور بالتشتت أو الازدواج فيتوحد مع ذاته ومع مصيره المرتبط أساساً بممارساته جميعاً مادّيها وروحيّها..

في الإسلام لا يرتبط مصير الإنسان بقيمة واحدة دون القيم الأخرى، بل هي جميعا تتناسق وتلتئم لتشكل في النهاية مصيره، وهذا هو الأساس العميق الذي يحفظ وحدة الذات البشرية من التفكك والتبعثر. فالإنسان المسلم في جميع ممارساته يسهم في تشكيل مصيره : عندما يصلّي وعندما يفكر.. عندما يتأمل وعندما يجرّب.. عندما يصارع قوى الضلال وعندما يتحقق بمعاني الجمال..

الإسلام يقدّم منهجه على أساس التوازن بين القيم المادية والروحية، وبهذا يمنح الإنسان مجالاً واسعاً تتفتح فيه قابلياته ويسهم بالحد الأقصى من الإبداع الذي يرفد العطاء الحضاري في شتى الاتجاهات، لأنه في أي عمل يمارسه لا يتجاوز مطالب منهجه الديني من جهة ويتحرك من جهة أخرى صوب مصير متوحد يستقطب القيم الطبيعية والروحية والعقلية والحسية ويتجه إليه بكليته دونما أي شعور بالتفكك أو الضياع.

لقد كانت دهشة ليوبولد فايس، ذلك القادم من مجتمعات الغرب المادية، ليتعرف على الإسلام، كبيرةً عندما قال : ” لقد أجفلت بعض الشيء في أول الأمر لا لاهتمام القرآن بالأمور الروحية فحسب، بل أيضاً بكثير من وجوه الحياة التي كانت تبدو لي تافهةً دنيوية أيضاً، إلا أنني مع الزمن بدأت أفهم أنه إذا كان الإنسان حقاً وحدةً كاملةً من جسد وروح -كما يؤكد الإسلام- فإنه ليس هناك وجه من وجوه حياته يمكن أن يكون من التفاهة بحيث لا يقع داخل نطاق الدين”..

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>