لا تزال فرحة المسلمين وبهجتهم بهذا الشهر عارمة، إنه الشهر الذي شرفه الله سبحانه بأن جعله مولدا لأعظم من خلق من البشر، وأكرمهم عليه اصطفاه سبحانه وتعالى بخاتم رسالاته رحمة للعالمين، وأنزل عليه قرآنه المعجز كتابا مهيمنا على كل الكتب {لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، داعيا إلى كل خير، ناهيا عن كل شر، وأظهر دينه بفضل ما أقام فيه من الشرائع والقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة والحكم النافعة {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}(التوبة : 33).
وقد جرى القدر في هذا العام أن يعرف هذا الشهر المبارك نوعا من الولادات ليس على صعيد الأفراد فقط وإنما على صعيد بعض البلدان الإسلامية العربية، ولادات جديدة في تونس ومصر وهي الآن في مخاض في ليبيا واليمن والعراق ولكن هذه الولادات الجديدة هي ولادات من تلك التي توصف بأنها قيصرية يضطر إليها عندما يكون الجنين في حالة متأزمة وفي وضع غير سليم يتعذر معه خروجه بصفة تلقائية وطبيعية، ويحتاج إلى إجراء عملية جراحية فيها تمزيق للجسد، وفيها دماء وآلام وقلق واضطراب نفسي وتخوفات آنية ومستقبلية، وربما مضاعفات صحية على المولود والأم، وفيها نفقات وصرف أموال على الجراحة والأدوية وقضاء أوقات في الراحة.
فالأوضاع المتأزمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا هي التي أثارت الجماهير في كل من تونس ومصر وما تبعهما من الأقطار كانت تعيش في وضع غير سليم، وجرت فيها مواجهات عنيفة فسالت دماء، ووقعت فيها حرائق وتمزقات في البلاد واضطرابات وقلاقل، وإضرابات، فهي وإن أعقبها سقوط رؤوس الأنظمة الحاكمة ولكنها ما زالت تعاني إلى اليوم مشاكل متعددة، لم تقف المظاهرات وظهرت رؤوس جديدة تقاوم من جديد المظاهرات، ويخشى الذين قادوا المظاهرات من قبل أن يَبقى الوضع متأزما على ما كان عليه بفعل تدخلات خارجية تريد ألا تفلت أنظمة الحكم في هذه البلاد من يدها خوفا على مصالحها ومصالح حلفائها ومصالح شركاتها الكبرى والعاملين من أبنائها في هذه البلدان، ولكن الأمل معقود على أن ينجي الله سبحانه المسلمين من كيد الكائدين ومكر الماكرين أنصار الباطل بكل مظاهره بفضل ما يتحلى به دعاة الحق وأنصاره من يقظة ووعي وصبر على مقاومة الباطل وأهله، فللباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تذل ولا تَقِل. وقد بدا واضحا الآن أن كل من حصل على عز بشري ولم يصنه بما يلزم من مراعاة حقوق الناس فإنه يأتي من البشر من ينزعونه منه ويذلونه. والله سبحانه يوتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
ونستلهم من شيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أخلاقه العظيمة وسيرته العطرة ما ينفع الأمة ويفيدها في هذه الظروف الحرجة ويحميها من انتشار الفتن مما هو ملحلوظ في واقعها. وأهم ما نعرضه الآن من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان في موقع قيادة المجتمع الإسلامي ورعاية مصالح الأفراد والجماعات وتثبيت أواصر الأخوة والتضامن، كانت له عين تقرأ بفطنة وذكاء حالات من يتصل بهم أفرادا وجماعات فيحل مشاكلهم بسرعة نافذة فيقضي حوائجهم وإن لم يعبروا عنها بلسانهم حيث يُغني التعبير بالحال عن التعبير بالمقال. فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، ثم أن رجلا من الأنصار جاء بصرة من وَرِق (فضة)، ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص منأجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سئية فعُمِل بها بعده كتب عليه وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء))(رواه مسلم).
إن الرسول القائد المسلم يريد للمسلمين أن يحيوا حياة كريمة ولا يرضى أن يكون بين جمهور المسلمين من يحيا حياة الحاجة والفقر والمسلمون قادرون على أن يقدموا المدد والعون، وإن سكت أولئك ورضوا فيلزم أن يقضوا حوائجهم حتى لا يضطروا فيما بعد إلى أن يضجوا ويصيحوا ويحدثوا الفتن وهو أمر متوقع يلزم علاجه قبل أن يفاجئ بحدوثه.
ونحن نسمع بعض المسلمين يرددون في إنشاداتهم وأهازيجهم : مدد، مدد يا رسول الله مدد، فيلومهم آخرون على أنهم يطلبون المدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد لحق بالرفيق الأعلى وإنما الطلب ينبغي أن يتوجه به المسلم إلى الله وهذا أحق، ولكن الذي يقبله التأويل ولا يرفضه أن من يردد بلسانه طلب المدد من الرسول صلى الله عليه وسلم هو لا يقصد الرسول الآن بذاته وإنما قصده المبادئ السامية التي أتى بها القرآن الكريم وترددت في السنة الشريفة التي هي محبوبة عند المسلمين بمحبتهم له فهي التي علمت وينبغي أن يتعلم منها كل مسلم على مر الزمان كيف يمد بعضهم بعضا ويعين بعضهم بعضا على قضاء الحوائج وإحقاق الحق بين الناس ودفع الباطل والظلم والفساد عنهم فهو طلب مدد من أثر سنته في الصالحين المصلحين وفي عباد الله المؤمنين المتقين فكأن المراد هو : مدد مدد يا أتباع رسول الله.
وقد ربى المسلمون أنفسهم على هذه الأخلاق الدينية الرفيعة من ذلك ما نستفيده من قول الشاعر المسلم عبد الله بن الزَّبِير :
سأشكر عَمْراً ما تراخت منيتي
أياديَ لم تُمْنَنْ وإن هي جَلَّتِ
فتًى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعلُ زَلَّتِ
رأى خَلَّتِي من حيث يخفى مكانُها
فكانت قَذَى عينيه حتى تَجَلَّتِ
فعمرو الممدوح قد رأى خَلَّة الشاعر أي علامات وأمارات تدل على حاجته وفقره بالرغم من أن الشاعر قد حرص جهده على أن يخفيها حتى لا ينتبه الممدوح إليها ولكن الممدوح بفطنته وذكائه ونبله وتوقه إلى فعل الخيرات وصلت عينه إلى تلك الأمارات فآلمه ألَما شديدا أن يكون الشاعر، الذي يمثل فردا من أفراد المجتمع الإسلامي على تلك الدرجة من الحاجة والفقر، وعبر عن شدة ألمه بما يحصل للإنسان عندما يدخل قذى في عينه فكيف بعينيه كما وصفه الشاعر، فتسيل الدموع مصحوبة بالألم دون أن يستطيع الإنسان حبسها، ولم يهدأ الألم عنده إلا بعد أن قضى حاجة الشاعر وسد ثلمته ونقصه. وهذا يدل على شيوع وانتشار مستوى عال من التضامن والإحساس بالأخوة الإنسانية والمشاركة التلقاية الطوعية في مد يد العون ومساعدة من هم في حاجة إلى المساعدة.
فأين نحن من هذه الأخلاق البناءة والمواقف الإنسانية التي هي من صميم ديننا الإسلامي والتي ينبغي على المسؤولين وأصحاب المناصب العليا ومن يتبعهم أن يستوعبوها جيدا وأن تصبح أساس تعاملهم مع الناس عامة والشباب خاصة وأساس نظرتهم إلى واقعهم تتفحص أعينهم أحوال الناس وتكتشف مظاهر الاحتياج والنقص من أجل محوها والقضاء عليها؟!
أين نحن من هذه الأخلاق وقد تلقى الناس جميعهم حاكمهم ومحكومهم دروسا من هذه الأحداث والاضطرابات التي قضت المضاجع ونشرت المواجع والتي يتوقع منها أن تفتح البصائر وتُحيي الضمائر فقد وجب الآن الخوف والخشية من عقوبات الواحد القاهر؟!