افتتاحية – الاعتراف يُزيلُ الاقتراف


إن الدين الإسلامي العظيم الذي أنزله الله سبحانه على خير من خلق من البشر كان من مقاصد شريعته الكبرى جلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم أفراداً وجماعات وتحقيق ذلك يتم بالطاعة الكاملة لما أمر الدين به ولما نهى عنه. فبذلك تتحقق للمسلمين الحياة الطيبة والعيش الكريم {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} أي أنه يدعوكم لما يحييكم حياة العز والكرامة والطمأنينة والأمن والوحدة والعلم، أي لما يجعلكم تشعرون بالحياة حقا لا خوف فيها على أنفسكم وأهليكم وأعراضكم وأموالكم ودياركم، فتطبيق شرع الله يحقق الحياة الحقيقية التي ينعم فيها الإنسان بكل خير والتي يتبعها خير أكبر وأحسن في الآخرة. وكأن من لم يستجب لله والرسول صلى الله عليه وسلم هو في حكم من لا يحيا الحياة الحقة، يحيا حياة الجهل والقلق والحيرة والخوف والفجوروالفساد والظلم والقهر والاستبداد والفتن…

فهو إما أن يشارك بأقواله وأعماله في إشاعة كل ذلك أو يلقى من غيره كل ذلك.

والمفروض أن البلاد العربية التي هي البلاد التي رفعت راية الإسلام عالية خفاقة في تاريخها المجيد وحمته من حقد ومكر الصليبيين شرقا وغربا، أن يكون حضور الإسلام بمبادئه السامية وأخلاقه الفاضلة ومقاصده النبيلة قويا مكينا منه تستمد قوتها وعزها ومجدها بتطبيق شريعته في مختلف مجالات الحياة العامة والخاصة لتكون لها حياة في ذاتها وحياة بين الأمم، فإذا سادها وانتشر فيها ما يخرج بها عن دائرة الحياة الصحيحة، فهي في موت معنوي ذاتي وهي في حكم المهزوم الضعيف التابع المتخلف الناقص عند الآخر لأنها دائما هي في حاجة إليه تنتظر أن يمدها بالمعونات والتبرعات.

فالحكومات تطلب المساعدات والمنظمات والجمعيات تطلب المساعدات، وإنجاز المشاريع يحتاج إلى المساعدات أليس هذا دليلا على ما يشبه الموت؟! يحدث منا كل هذا من كبيرنا وصغيرنا بالرغم من أننا حفظنا قول الرسول الأعظم ((اليد العليا خير من اليد السفلى)).

يحدث من العرب كل هذا التسول الاقتصادي والسياسي وكثير من أموال الشعوب العربية تملأ بها الحقائب وتوضع في الأبناء بالخارج أو في مشاريع استثمارية خاصة!! وهذا لم يعد أمرا خفيا بعد الفضائح المخزية التي انتشرت عن بنعلي بتونس ومبارك بمصر وهي على أشدها وأقواها وأكثرها انشتارا عن القذافي، هؤلاء الذين حكموا أوطانهم مدة طويلة من الزمان.

فأين هم بما اتصفوا به من كبر وعجرفة وصلف وغلظة مما  يحفل به التاريخ المغاربي البطولي المجيد من أمثال يوسف بن تاشفين الذي حكم منطقة الغرب الإسلامي ما يناهز الخمسين سنة وصفه المؤرخون بالزاهد المتقشف  وبالبطل الشجاع الحازم الضابط لملكه الحافظ لبلاده وثغوره محبا للعلم والعلماء يقبل النصيحة؟! وصفه ابن أبي زرع فقال عنه كان حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال الفضل، وهو لا يقل أهمية وعظمة في محاربة الصليبيين وحماية الإسلام والمسلمين عن يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الأيوبي.

وأين هم في التاريخ الحديث من المرحوم محمد الخامس الذي وضع يده في يد العلماء والمجاهدين لتحرير البلاد من قبضة الاستعمار الفرنسي الغاشم ولم ينصع لضغط المستعمر وإرادته وضحى بملكه وفضل أن يُنفى هو وأسرته على أن يبقى ملكا وشعبه تحت سلطة وسيادة المستعمر. لا يريد أن يكون ملكا لشعب يهان وتُنتهك حقوقه وتنتهب خيراتها ويعوق الاستعمار انطلاقه وتطلعاته إلى البناء والتشييد والحرية؟!

فهذا موقف إنساني شريف يتلمس فيه الشرف ليس في المال والجاه والمنصب وإنما في رعاية حقوق الناس وصيانة كرامة الأمة ومصالحها العليا، ووضعها موضع العزة والسيادة والحرية. فالحاكم المسلم عزته بعزة شعبه وغناه بغنى شعبه ومجده يتحقق برعاية جميع أفراد شعبه، يقض مضجعه أن يرى شعبه يهان ويُحتقر وتُنتهب أمواله من أي كان. فهؤلاء فهموا معنى أن يكون المسلم حاكما وقائداً للمسلمين، فمصلحة الشعوب مقدمة عندهم، وهي أولى بالرعاية والاعتبار.

ولو أن هؤلاء قبل أن يجرفهم تيار الجماهير الغاضبة فيرمى بهم في مزبلة التاريخ سارعوا إلى الإقلاع عما كانوا عليه فاعترفوا بأخطائهم أمام شعوبهم بما اقترفوه من جرائم ونهب للأموال لربما خفف ذلك عنهم لأن الاعتراف يزيل الاقتراف خصوصا إذا أُنصف المظلومون ورُدّت الأموال المنهوبة المهربة إلى أوطانها سالمة ينتفع من خيراتها واستثماراتها أفراد الشعب. لأن مظاهر الغنى الفاحش تثير غضب الكثير منهم وقد أصبحت مكشوفة لديهم تراها أعينهم في الواقع وفي التلفاز تظهر في المساكن الفخمة والفيلات الضخمة الشبيهة بالقصور، وفي السيارات الكبيرة المعروفة بأثمانها المرتفعة وتعددها، وفي الضيعات الواسعة المساحة المجهزة وفي الفنادق والشركات والمصانع الكبيرة التي تدر أرباحا هائلة. فيترجح لديهم أن كثيرا من هذا الغنى المفرط قد حصل عن طريق النهب غير المشروع.

وكان عليهم أيضاً وعلى من تورط من أمثالهم وهم يحكمون شعوبهم أن يحتاطوا لمثل هذه العواقب السيئة ليس بالقهر والظلم والاستبداد وسفك الدماء وابتزاز الأموال لكن ببناء الدولة وأجهزتها على أسس صحيحة بنشر العلم وإقامة العدل وإحقاق الحق وتطبيق الشرع وإشاعة روح التضامن والرحمة بين الناس، لو فعلوا ذلك لما كانت نهايتهم محزنة مخزية لهم، ولما استبدلوا الذل بالعز وصاروا يطلبون (السلة بلا عنب) ولسانهم يقول :

وكان رجائي أن أؤوب مملّكا

فصار رجائي أن أؤوب سليما

ونحن في بلاد المغرب العزيز الذي الشأن الديني فيه له شأن والذي تربى فيه أبناؤه طيلة تاريخهم على محبة دينهم والدفاع عنه وهم مصوفون بالخصال الحميدة في كرمهم وشجاعتهم وإبائهم وفي صدقهم وتضامنهم وتلاحمهم فيما بينهم نريد لهذه الأخلاق أن تستمر لدى جميع فئات الشعب حاكمهم ومحكومهم…

فإذا كنا نختار أن نصف الفريق الوطني بأسود الأطلس اعتبارا لما كان عليه المغرب من انتشار الأسود في  غاباته الأطلسية فإذا غابت الأسود الوحشية فقد حضرت الأسود البشرية بقوتها وشجاعتها وذكائها الذي يضع الخطط البانية وبنفذها بإتقان ومهارة وفنية، وقد عرف عن الأسد أنه يعتمد على نفسه في كسب رزقه عندما يبلغ ستة أشهر، وله صبر على الجوع والعطش، وعنده شرف نفس وإقدام على الأمور وعدم الاعتماد على الغير، وأنه لا يعاود فريسته ولا يأكل من فريسة غيره ولا يشرب ماء ولغ فيه كلب، إذن ففيه عفة عما ليس له، وهذه مجموعة من الصفات فيها ما هو مادي وما هو معنوي ونحن في حاجة إلى التمسك بما هو معنوي فيأخد الجميع الصفات المعنوية ويكون الجميع أسود الأطلس يحمي هذه البلاد ويبني مجدها و يعد إليها عزتها وقوتها، وهذا لا يقتصر على الذين يلعبون الكرة فحسب وإنما يعم جميع أبناء الوطن : الحكومة بوزرائها وجميع المسؤولين في المناصب الهامة والقضاء والمحامين والموظفين بجميع فئاتهم والعمال والطلبة وكل المغاربة على أساس أن يتمثلوا هذه الصفات صفات القوة والشهامة والشجاعة والعزة والكرامة والعفة، وأين يضع كل من ينتمي إلى هذا الوطن نفسه في موضع يَحترم فيه الآخرين ويُحترم من الكل.

وهذا المعنى ليس بعيدا عنا لو كنا نتأمل حق التأمل شعار الأسدين الموجود في عرش المملكة والموجود في النقود المعدنية والذي تقدمه التلفزة في افتتاح برامجها، فما قيمة هذا الشعار إن لم يستفد المواطنون بجميع أصنافهم من مغزاه وأبعاده الرمزية؟!!

فكما نعول على أسود الكرة أن يرفعوا مكانة المغرب في الكرة والرياضة نعول على الأسود الجماهير الممثلة لكل فئات الوطن أن ترفع مكانة الوطن بين الأمم في ميادين الحضارة والعلم والصناعة والأخلاق السياسية والإنسانية. وما ذلك بعزيز لو توفرت الهمم العالية، والارادات القوية.

ولقد أصبح لازما على جميع فئات المسلمين وخاصة منهم رجال الحكم والمناصب العليا والمسؤولين عما له علاقة بالمال العام والتصرف فيه بأي شكل من أشكال التصرف أن تغيروا نظرتهم إلى المال وطرق جمعه واكتسابه واستثماره فقد اتضح في أذهان الناس وضوح الشمس. إن جمع المال و تكديسه بطرق غير مشروعه ليس هو السبيل الأسلم لأن يعيش الإنسان عيشا كريما وأن يطمئن على مصيره وعاقبته في الدنيا وإنما العاقبة تكون لمن يأخذ المال بحقه المشروع.

وليعتير المسلمون جميعا بما حصل لقارون ولمن سار على نهجه القاروني قال سبحانه {فخسفنا به وبداره الارض}(سورة القصص). بعد أن أعرض عن أمر الله له حين قال له تعالى : {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الارض}(سورة القصص ).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>