استقرار الأسرة بحاجة لـمعاشـرة زوجية راشدة


إن تربية الأطفال في أحضان الأسرة مشروع تربوي ذو أهمية قصوى، ولكي يستطيع الأبوان أن ينهضا بهذا المشروع، لا بد أن تبنى العلاقة فيما بينهما على أساس الانسجام والتكامل، لا على الصراع والتناحر.. بمعنى أنه يجب أن ينظر كل طرف للآخر على أنه مكمل له في الدور التربوي وليس منافسا  له أو مصارعا، حتى نجنب الأطفال الاضطراب النفسي والعاطفي ونجنبهم البناء المشوه لشخصيتهم وكيانهم الإنساني المنشود.. وفي هذا الإطار هناك أمر في غاية الأهمية وهو ما يرتبط أساسا بالعلاقة بين الزوجين، هذا الجانب قلما يعتبره الأبوان عاملا مركزيا في نجاح المشروع التربوي داخل البيت..

وما نود معالجته هنا هو معاملة رب الأسرة لأم أولاده معاملة خالية من السكون الزوجي، والأخلاق الإسلامية الكريمة وغياب المودة والرحمة المنشودة في الحياة بين الزوجين أساسا.. فكثير من هؤلاء لا يترددون في إهانة زوجاتهم أمام أولادهم، ولا يقيمون لوجودهم في الحياة البيتية تقديرا جيدا، و لا يقيمون لهن وزنا في تسيير أمور الأسرة والمشاركة في حل مشاكلها، وقد يتجاوز ذلك إلى الظلم الصارخ، وحجب الحقوق الزوجية عنها، تلك التي قررها الإسلام لها، الأمر الذي يقود إلى نتيجتين خطيرتين:

< أولاهما: أن رب الأسرة يسقط بأخلاقه الرديئة وعدم ذوقه الاجتماعي في نظر أولاده من حيث كونه مثالا. فلا ينسجمون بذلك مع أفكاره الإسلامية بل يرونها، لسوء تطبيقه وقصر مداركه، أفكارا مثالية لا ظل لها في الواقع، ولا أثر لها على السلوك، فيحاولون أن يبحثوا عن غيرها داخل العائلة الكبيرة أو خارجها..

< ثانيهما: أن الزوجة المظلومة داخل العائلة تحاول شعورا أو لا شعوريا أن تثأر من زوجها بطريقة وضع الحواجز بين أولادها وبينه، لا بل هي أحيانا تكرّه إليهم والدهم حتى ينحازوا إليها ويدافعوا عنها، بل يصل الأمر أحيانا إلى درجة أنها تحاول أن تصور لهم أن سبب ظلمه لها وتعديه عليها هو تديّنه، فإن أرادوا أن يكونوا منفتحين مرنين في الحياة يجب أن لا يسلكوا سبيل والدهم.. وتنتهي هذه المأساة بعدم تعاون الزوجة مع زوجها. وهكذا يخفق هذا المسكين بسوء إدارته ورداءة تصرفاته في تربية أولاده تربية جيدة من حيث كان منتهى أمله الوصول إلى ذلك الهدف النبيل..

وأما توجيهات الإسلام فتدعوا إلى توفير أكبر قدر من الاستقرار لهذا المحضن الذي ينشأ فيه الأطفال، ولتكون تنشئتهم في أفضل وضع لهم، وفي أنسب الظروف ملاءمة لنموهم السوي على الفطرة السليمة. فهو أولا يستثير وجدان المودة والرحمة بين الزوجين، ليكون هذا هو الرباط الأقوى الذي يربط قلب الأب وقلب الأم، فيربط معهما كيان البيت كله: {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم :21).

ثم وصى كلا منهما بإحسان المعاملة من جانبه والحرص على هذا الرباط من أن تنفصم عراه، حيث يقول للرجال: {وعاشروهن بالمعروف. فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}(النساء :19) فيجعل الأمل هو الغالب، والصبر على المكروه هو الواجب. فلا يسرع الرجل إلى فصم تلك العلاقة لأول تغير في قلبه، أو بادرة سوء يراها منه.. فعليه ألا يسترسل مع مشاعر الضيق، وألا يحبس نفسه مع الجانب الذي يسوؤه من زوجته، بل يجب أن يذكر جوانب الخير الأخرى. ولن يعدم ما تطيب به نفسه من سيرتها ومعاملتها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يفرك- لا يكره – مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر))(رواه مسلم). فإن غلبته مشاعر التشاؤم، وظن من نفسه أنه يكرهها كراهية تامة، فليعلم أن هذه المشاعر كثيرا ما تكذب، وأن المرء قد يفرط في أسباب خيره ومصادر نفعه..

ويضع الإسلام كذلك أمام المرأة صورة جميلة لهذه المعاشرة توجيها لها لأن تحاول تحقيقها، بما يحفظ للبيت استقراره وأمنه: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله}(النساء : 34) كما يضع أمامهما معا صورة دقيقة عميقة للعلاقة بينهما تجعلهما ممتزجين متحدين متداخلين كالإنسان وثوبه: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}(البقرة 187) بكل ما يوحي به هذا التعبير من معاني الملامسة والمكاشفة والالتصاق الجسدي والروحي والوجداني كلها في آن واحد..

ويدعو إلى علاج كل بادرة من بوادر الخلاف قبل أن تصل إلى القطيعة: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا. وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}(النساء : 24- 35). {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا. بينهما صلحاً والصلح خير}(النساء : 127).

وهكذا.. بكل الوسائل يحرص الإسلام على بقاء هذه الرابطة مستقرة جهد الطاقة، ولا يفرط فيها إلا أن تصبح الحياة في ظلها مستحيلة لأسباب غير قابلة للعلاج، فعندئذ لا يكون هناك حل إلا الانفصام، و..((أبغض الحلال إلى الله الطلاق))(أخرجه أبو داوود والحاكم).

ففي رحاب الأسرة الهادئة المتماسكة تنمو الخلال الطيبة، وتستحكم التقاليد الشريفة، ويتكون الرجال الذين يؤمَّنون على أعظم الأمانات، وتخطب النساء اللائى يقمن على أعرق البيوت. فلا غرو أن يهتم الإسلام بأحوال الأسرة، وأن يتعهد نماءها بالوصايا التي تجعل امتدادها زمانا ومكانا، خيرا ونعمة ..

فلا شيء ييسر التربية السليمة ويجعلها أقرب إلى إتيان الثمرة المرجوة من الجو المستقر حول الطفل، والحب المرفرف حوله من خلال الأبوين. ولا شيء يفسد التربية ويجعلها أبعد عن إتيان ثمرتها من جو القلق العصبي والنفسي والفكري والروحي، والجو المشحون بالبغضاء والشقاق والتوتر…

وفي كتاب الله وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم أوامر مؤكدة بين أفراد الأسرة كلهم.. فإن العناية بسلامة الأسرة هي وحدها طريق الأمان وصمام الأمان للجماعة كلها.. وهيهات أن يصلح مجتمع وهت فيه حبال الأسرة ..

و قد نوه القرآن الكريم بجلال النعمة السارية في أوصال هذه الفئة من المجتمع الكبير فقال: {والله جعل لكم من انفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات، أفبالباطل يومنون و بنعمة الله هم يكفرون}(النحل 72).

إن الزوجين وما بينهما من علاقة، أو الوالدين وما يترعرع في أحضانهما من بنين وبنات لا يمثلان أنفسهما فحسب، بل يمثلان حاضر أمة ومستقبلها..

ومن ثم فإن الشيطان حين يفلح في فك روابط الأسرة لا يهدم بيتا واحدا، ولا يصنع شرا محدودا، إنما يوقع الأمة جمعاء في شر بعيد المدى. وتأمل هذا الحديث الذي نسوقه إليك لتعرف أن فساد الأسرة قرة عين الشيطان!..: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سرياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول:فعلت كذا وكذا، فيقول : ما صنعت شيئا، ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت، فيلتزمه))(مسلم).

***

وفي إطار المعاشرة الطيبة، نشير إلى أهمية اهتمام المسلم بزوجته في جانب التكوين والتربية وتحصيل العلم النافع فهذا ضمن المعاشرة بالمعروف التي نتحدث عنها..إذ الملاحظ أن المسلم غالبا ما ينسى أهله بدعوى الاشتغال بأموره الشخصية وغيرها..

<  أخرج الحاكم وصححه على شرطهما عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} قال: علموا أهليكم الخير(الترغيب)، وأخرجه الطبري في تفسيره بلفظ : “علموهم وأدبوهم”..

<وأخرج البخاري في الأدب عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شيبة(جمع شاب) متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتهينا أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلينا، فأخبرناه -وكان رفيقا رحيما- فقال: “ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم وليؤمكم أكبركم”.

إننا نجد أن عائشة رضي الله عنها قد حصَّلت نصف علم رسول الله صلى الله عليه وسلموذلك باهتمامه صلى الله عليه وسلم بها من جهة، وحرصها على تحصيل العلم منه، فقد كانت رضي الله عنها تفتي في قضايا كثيرة وذلك ما نعرفه في السيرة من خلال علاقتها واتصالها بالمهاجرات والأنصاريات.. ونعلم كذلك أنها روت عدة أحاديث عن النبي الكريم عليه السلام ..

والأمثال كثيرة في هذا الصدد، والمقصود هو أن مجموعة من المسلمات ضربن المثل في التحصيل العلمي والتربية والتكوين.. والأمر راجع بالدرجة الأولى لاهتمام  أزوجهن بهن وتنمية الرغبة لديهن في هذا الاتجاه.. أضف إلى هذا أن المسلم إذا اهتم بزوجته وحرص على أن تكون في مستوى التكوين التربوي المنشود في كل أم، فإننا سنكون بذلك قد قطعنا شوطا طويلا في عملية التربية التي نهدف إلى تعميمها على المجتمع..

ذ محمد بوهو   Al_qalsadi2006@hotmail.com

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>