استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟ 13- الاستعمالات الخاطئة تفقد اللغة قيمتها التعبيرية: اللحن والضلال: (الضلال اللغوي)


ذكرنا في الحلقة الماضية أن من لا يتقن لغة أمته ويستعملها(للتواصل) مع بني جنسه يَضِلُّ ويُضِل(المحجة عدد 354) ونعني بهذا الضلال أنه يخطئ الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليصل إلى قلوب مخاطبيه بفتح الطاء ومشاعرهم، ويُضِل هؤلاء المخاطبين حيث يجعلهم لا يفهمون ما يريده منهم، أو يفهمون غير ما يقصد. وقد  ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وَسَمَ الذي لحن بحضرته بالضلال. ودعا الآخرين إلى إرشاده. وعليه فلا عيب إن عممنا هذه التسمية على كل الذين يلحنون في لغتهم ليصير مصطلح الضلال اللغوي على اللحن بأي مستوى كان وبأي شكل وقع : سواء كان بجهل قواعد اللغة التي تؤمن سلامة الخطاب، أو بترقيع لغته بكلمات أجنبية عنها، فكل ما يسبب عدم (التواصل) بين الطرفين المتخاطبين ضلال، وما أكثر ما يحدث من مشاكل بين الناس نتيجة سوء الفهم، أو عدم التفاهم أفرادا كانوا أو جماعات أو هيئات.  والفهم السليم أساس بناء التصور السليم لأي عمل جاد. ولذا لا نعجب من تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم اللحن بالضلال، ودعوته الحاضرين بأن يقوموا بعمل مضاد لذلك الخطاب الذي ينتج عنه إفساد العلاقات بين الناس، حيث دعا صلى الله عليه وسلم إلى إرشاد الضال “والرشد بضم الراء : الصلاح، وهو خلاف الغي والضلال، وهو إصابة الصواب” (المصباح المنير للفيومي مادة رشد).

ويقول الكفوي “والرُّشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، وغالب استعماله للاستقامة بطريق العقل، ويستعمل للاستقامة في الشرعيات أيضا، ويستعمل استعمال الهداية”(الكليات 476).

هكذا يتضح من خلال تعريفنا (للرُّشْد) الذي هو ضد الضلال مدى خطورة اللحن نظرا لما يؤدي إليه من  قلب للمفاهيم وإفساد  للعلاقات، وسوء التصور لأي مشروع يراد به الصلاح والإصلاح. ولذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما ذكرناه أعلاه. هذا والحق سبحانه يقول : {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة}(الأحزاب : 21). ونحن نلاحظ في السياق الذي نحن بصدده أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الحاضرين إلى إرشاد الضال. ولذا فعلى كل من يعنيه هذا الأمر أن لا يتقاعس عن الدفاع عن لغته التي هي رمز سيادته. وفي هذا السياق أيضا أوردنا فقرات من مقدمة كتاب “العربية الصحيحة” للدكتور أحمد عمر مختار، وتبعا لما مضى يقول : “ويُلِحّ علي هذا التساؤل حين أعقد مقارنة بين المثقف العربي حين يتحدث أو يكتب بلغته العربية، والمثقف الإنجليزي – حين يتحدث أو يكتب بلغته الإنجليزية فأجد النتيجة -مع الأسف- مخزية. القلة القليلة، أو الندرة النادرة من الأولين (ويعني بهم المثقفين العرب) قد استقام لسانهم، وارتفع مستوى لغتهم، أما الكثرة الكاثرة منهم فلا تقيم لسانها. ولا تحسن التعبير عن ذات نفسها. والأمر على النقيض بالنسبة للرجل الانجليزي الذي يتقن لغته كتابة وحديثا مهما كان تخصصه.

وإذا كان اللغويون (العرب) القدماء قد اعتبروا اللغة العربية لغة الملائكة، ولغة أهل الجنة، فقد كان مظهرا من مظاهر تقديسهم لها، وإيمانهم بكمالها. أما الآن فقد أصبحت مقولتهم حقيقة واقعة، إذ لم تعد اللغة العربية في صيغتها الصحيحة لغة أهل الأرض، بل ارتفعت إلى عنان السماء راضية بأن تكون لغة الملائكة ولغة من يرضى الله عنهم يوم القيامة فيدخلهم الجنة.

و… اللغة العربية إلى سكان الأرض مرة ثانية هو المشكلة الأساسية التي تواجهنا  الآن، والتحدي الكبير لأساتذة اللغة العربية والقوامين عليها، وهو تحد يجب أن تتظافر الجهود الفردية والجماعية لمواجهة الانتصار عليه.  نحن لا نطلب المستحيل، ولا نعاكس طبائع الأشياء حين ننادي بهذا، فلسنا نريد برد اللغة العربية إلى سكان الأرض أن تصبح لغة الحياة، ولغة الحوار اليومي. فهذا إغراق في الخيال، ومحاولة للوصول إلى وضع ما نظن أن اللغة العربية أو أي لغة في العالم قد حققته في يوم من الأيام.

ولكن كل ما نريده لها أن تصبح لغة المثقفين في مواقفهم الجادة، في أحاديثهم وحواراتهم ومحاضراتهم.. في اجتماعاتهم، ولقاءاتهم.. في مجالسهم وندواتهم.. على ألسنتهم وأقلامهم. ولن يكون ذلك إلا إذا تغير أسلوبنا في تعليم اللغة العربية وتعلمها، واتخذنا خطوات جريئة في سبيل تيسير اللغة العربية وربطها بالحياة، وقبلنا الكثير من التعبيرات والألفاظ والأساليب المستحدثة ما دام لها وجه في العربية تخرج عليه. وأخيرا وليس آخرا. إلا إذا استطعنا أن نثير الحافز الشخصي في نفوس التلاميذ، وأمكننا أن نبعث فيهم روح الغيرة على اللغة، حتى يعتبروها جزءا من كيانهم ومقوما لعروبتهم، وأساسا لدينهم.

وهدفي من تأليف هذا الكتاب أن ابعث روح الغيرة في نفوس أبناء العربية، وأن أسهم بجهدي المتواضع مع جهود الآخرين من أجل تقريب اللغة العربية إلى عامة المثقفين.(العربية الصحيحة 12).

د. الـحـسـيـن گـنـوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>