فـقـه حـب الـرسـول 


إن اختيار هذا الموضوع الخاص ” بفقه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم “راجع لما يلاحظ عند بعض الناس من تناقض بين سلوكهم وأعمالهم واعتقاداتهم بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إن فقه الشيء وإدراكه على حقيقته يؤدي إلى حسن العمل به، لأن حسن الفهم يؤدي إلى حسن العمل، وحسن العمل يؤدي إلى حسن الثواب، وفي تقديري يحسن التذكير بهذا الأمر دوما وخاصة إذا تزامن مع مولد النبي الكريم، لذلك كان التوجيه مناسبا لبيان حقيقة حبه بدءا بالتعريف بالمحبة ومرورا بوجوبها، وثوابها، وعلاماتها، وآثارها.

فأما الفقه، فكما هو معروف، يقصد به العلم بالشيء والفهم له، يقال : فقه الشيء أو الكلام أي فهمه، وفَقِه فَقَاهة عَلِمَ وأصبح فقيها(1).

والمقصود بالفقه هنا : الفهم والإدراك لمعاني حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، ظاهرا وباطنا، شكلا ومضمونا، وكل أمر  غاب إدراكه وفهمه على حقيقته، كان الذي يدعيه أو يقوم به غير قائم به على وجهه الصحيح.

وأما الحب فهو نقيض البغض، ومعناه : الوداد والمحبة، وهو ميل إلى ما يوافق المحب(2)، وبذلك كان الحب يؤدي إلى مودة المحبوب والميل إلى ما يميل إليه، ولهذا المعنى قال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله : طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال تعالى : {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}(3)، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال تعالى : {فإن الله لا يحب الكافرين}(4) أي لا يغفر لهم.

معنى حب رسول الله  صلى الله عليه وسلم:

لكثرة حب المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللعلماء عامة، وفي مقدمتهم العاملون منهم خاصة، اختلفت تفسيراتهم وطرق بيانهم لمعاني هذا الحب، فمنهم من حصرها في أتباعه، واعتبر المحبة تساوي الاتباع مستدلا على ذلك بقوله تعالى : {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}(5).

كما حملها بعضهم على اعتقاد النصرة والذب عن السنة، واعتبرها آخرون دوام الذكر للمحبوب وإيثاره على  كل محبوب والشوق إليه(6).

وأعتقد أن كل هذه المعاني تفهم في معنى المحبة، إذ حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، وكل هذه المعاني لا يستلذها ويعشقها إلا من صدق و أخلص لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

لزوم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 ووجوب فرضها:

إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لازمة مفروضة فرضا عينيا على كل مسلم، بل الواجب أن يقدم حبه بعد حب الله عز وجل على ما سواه، بدليل قوله تعالى : {قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}(7) فهذه الآية الكريمة دلت على لزوم ووجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض : “فكفى بها حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع تعالى من كان مالُه وأهلُه وولدُه أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى : {فتربصوا حتى ياتي الله بأمره} ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله(8).

وأخرج مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحَبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”(9).

وعن أنس أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان  أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار”(10).

فمحبته صلى الله عليه وسلم ليست واجبة فحسب، وإنما هي مقدمة لزوما على كل ما يحبه المرء حتى والده وولده ونفسه والناس أجمعين، وهذا سر كون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكسب العبد حلاوة الإيمان.

ولقد دلت الأحاديث الصحيحة على تحقق ذلك في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي، فيصحح له رسول الله الفهم، ويفقهه في حب النبي الكريم بقوله : لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه” فيبادر عمر على الفور قائلا : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبُّ إلي من نفسي التي بين جنبي(11).

ولقد عقب سهل بن منبه على قصة عمر في حب رسول الله  صلى الله عليه وسلم قائلا : ” من لم ير ولاية الرسول عليه السلام في جميع الأحوال، ويرى نفسه مِلكه صلى الله عليه وسلم لا يذوق حلاوة سنته”(12).

ثواب صدق محبته:

إن صدق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيل قويم، وطريق عظيم للجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي  صلى الله عليه وسلم فقال له : متى الساعة يا رسول الله؟ قال: “ما أعددت لها”؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنت مع من أحببت”(13).

وفي سبب نزول قول الله تعالى : {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما}(14).

أورد القرطبي روايات من بينها : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه، ونَحِل جسمه، يُعرف في وجهه الحزن، فقال له : “يا ثوبان ما غير لونك” فقال : يا رسول الله : ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك، اشتقت إليك، واستوحشتك وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة وأخاف ألا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيئين، وأني إذا دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا، فأنزل الله هذه الآية(15).

فتبين من حديث أنس وقصة ثوبان، أن مَنْ صَدَقَ حبُّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في الجنة، لأن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، فكيف عندما يكون الصدق مشفوعا بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

علامات وأمارات حب رسول الله  صلى الله عليه وسلم:

إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحقق بالادعاء، أو بغير الاهتداء بهديه، وإنما يتحقق بأعمال وأقوال تظهر أماراتها وعلاماتها في مدعي الحب، وهذه الأقوال والأفعال تميل إلى  ما يوافق المُحَب، وهذا يستدعي الاتباع والاهتداء بهدي رسول الله باستمرار، والميل القلبي والطوعي والتلقائي إلى  ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمه على غيره، ويكثر من فعله وذكره، قال القاضي عياض : فالصادق في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم تظهر  علامات ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}(16)

وأهم علامات وأمارات حب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يلي:

1- حب القرآن الذي أتى به صلى الله عليه وسلم، وهدى به واهتدى، وحب من يحبه ويعمله ويدعو إليه وينفق عليه، وبغض من يبغضه ويبغض معلميه والداعين إليه والمنفقين عليه.

2- حب السنة النبوية والحرص عليها، وحب من يفعلها، أو يدعو إليها، وبغض من يبغضها، أو يبغض من يحبها ويقيمها، لأن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه، قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي حب  صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي  صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب السنة حب الآخرة.

3- إيثار ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض عليه على هوى النفس وإسخاط العباد في رضا الله تعالى ورضا رسوله.

4- كثرة ذكره له فمن أحب شيئا أكثر ذكره، وأظهر الخشوع والانكسار عند سماع ذكره.

5- كثرة شوقه إلى لقائه، وفي حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة كانوا يرتجزون غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه(18).

6- محبته لمن أحب من آل بيته وصحابته من الأنصار والمهاجرين، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم.

7- شفقته على أمته، ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ورفعه المضار عنهم، تأسيا برسول الله الذي كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.

هذه بعض من علامات  وأمارات حب رسول الله، دلت دلالة قوية وواضحة على حبه، واتجهت لمعاني الحب العملية، فمن اتصف بها، وأحسن تطبيقها كان فعله مترجما لصدق دعواه.

——–

1- ينظر لسان العرب لابن منظور، مادة : فقه.

2- المصدر نفسه مادة، حبب.

3- سورة آل عمران آية : 31.

4- سورة آل عمران آية : 32

5- سورة آل عمران آية : 31.

6- تنظر أقوالها في الشفا : 2/26.

7- سورة التوبة  آية : 24.

8- كتاب الشفا للقاضي عياض : 2/17.

9- الصحيح ـ كتاب الإيمان ـ رقم : 44.

10- أخرجه البخاري ـ رقم : 16.6941

11- الحديث في البخاري برقم : 6632. وينظر الشفا : 2/18.

12- الشفا ـ 2/18.

13- صحيح البخاري : رقم : 6171.

14-  سورة النساء آيتان : 68- 69.

15-  ينظر الجامع لأحكام القرآن : 5/271- 272.

16- سورة آل عمران آية 31، والشفا للقاضي عياض  : 2/22.

17- الجامع للقرطبي  : 4/60- 61.

18-  ينظر الشفا : 2/23.

أ. د. عبد الله الهلالي عضو المجلس العلمي المحلي لصفرو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>