المولد النبوي مناسبة لتحقيق الشوق إلى رسول الله


جُبلت نفوس الناس على حب من يحسن إليها ويُسدي لها الخير، وأفضلُ من جاء الناسَ أجمعين بخير عميم وفضل عظيم، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لم تعرف البشرية قبله ولا بعده مثله أبدا، أَحَبَّه الله تعالى واصطفاه على كل خلقه، وشرَّفه بخاتمة رسالاته، ووصفه بمكارم الأخلاق، وحلاَّه بمزايا الصفات، أحب الناس عامة، وأحب لهم الخير وسعى لهم فيه، وأوذي في سبيل ذلك، وكان يهتم ويغتم على عدم استجابتهم  للإسلام.

شهِد بفضل رسول الله عليه الصلاة والسلام كلُّ من رآه ممن لم تكن على عينيه غشاوة، وعشِقَه كلُّ من عرف هديه وسنته وسيرته ممن لم يكن على قلبه كِنٌّ، وأحبه أصحابه حبا جما، حتى أنهم كانوا لا يمَلُّون من مجالسته والتحدث معه والسماع منه والأخذ عنه والجهاد معه، وكانوا إذا غابوا عنه قليلا سرعان ما يحِنُّون لرؤيته ويُهْرَعون إلى النظر إلى وجهه الأنور الأغر، ومحياه الأزهر، ووُجد من أمته من يجيء بعده بعدة قرون يؤمن به ولم يره، ويصَدق به وبكل ما جاء به، ويهيِّجه الشوق إلى رؤية وجهه الشريف، والتمتع بطلعته البهية.

وفي هذا الموضوع سأتناول الشوق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهيجانه عند محبيه بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم الذي تظللنا ذكراه العطرة في هذه الأيام.

- المعنى اللغوي للشوق قال ابن منظور رحمه الله : “الشوق والاشتياق: نِزاعُ النفس إلى الشيء، والجمع أشواق… والشوق حركةُ الهوى”(1).

فالشوق إذن هو: التطلع إلى رؤية المحبوب إذا هاجت النفس إليه واستوحشته وتشوفت إليه ورغِبَتْ فيه بشدة.

- المشتاقون للرسول في آخر الزمان: أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه  سيكون من بعده من أمته محبون مشتاقون له، ومن شدة حبهم لنبيهم لا ُيبالون لو أنفقوا كل أموالهم وافتَدَوْا بأهلهم مقابل رؤيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قابَلوا شوق الرسول إليهم  بشوق هائج إليه من وراء جدران الزمان والحواجز. جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله))(2).

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية- يخرجون  بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني))(3).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله ))(4).

محبون عاشقون ملأ الشوق قلوبهم، وتحققت لهم  المحبة الكاملة الفاعلة للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يكتحل لهم جفن إلا بالنظر إلى محياه والجلوس معه، نالوا هذه  المنزلة بعظيم حبهم لصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم وبتذكُّرهم له دائمًا وتمنِّيهم رؤيته والشوق إلى لقياه والكينونة معه  في الجنة، رُغم عدم رؤيتهم له في الدنيا.

قال مشتاق ملتاع مخاطبا رسول الله عليه الصلاة والسلام:

شوق لكم شق الضلوع معانقا             مسرى البيان ومسرح الإلهام

ما كنت أكتم حبكم، وهواكم               متمكن في مهجتي وعظامي

إن لم يكن حبي لجيرة أحمد               فلمن تكون مودتي وغرامي؟(5).

إن المؤمنين الصادقين  في زمان الغربة هذا – على قلتهم وذلتهم- لا يشعرون بالغربة ولا بحياة الضنك، التي يُحسُّ بها غيرهم، إذ كيف يشعرون بها وقلوبهم ملأى بحب الله ورسوله والشوق إلى لقائهما، فهم يفتخرون بغربتهم في مجتمع الضياع، ومجتمع انحطاط القيم، ونُضوب الإيمان من القلوب واللهث وراء الماديات المُلهية المُطْغية، وبحبهم وشوقهم لرسول الله  تَذهب همومهم وتنجلي كرباتهم، وتبرأ أدواؤهم.

فإلى المصطفى تتشوق نفوسهم العالية، وبحبه تَلتاع  أرواحهم السابقةُ إلى الخيرات، الناشئةُ على الاستقامة والطهر والطاعات، قال متيم مشتاق :

نسينا في ِودادك كل غال                   فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتكم ويكفي                   لنا شرف نلام وما علينا

ولَمّا نَلقَكُم لكن شوقا                       يُذَكِّرنا فكيف إذا التقينا

تسلَّى الناس بالدنيا وإنا                     لعمرُ الله بَعْدَك ما سَلَيْنا(6)

قال ابن القيم رحمه الله : “وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحبُّ إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة. والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومَنْ حولها”(7).

فهل نهضَتْ بك همتك – أيها المؤمن – لتكون من هؤلاء ؟، وهل زاد حبك لرسول الله وتمنيت لقياه واشتقت لرؤية وجهِه الأنور؟.  وهل ضاعَفْتَ حبَّك وشوقك ورفعْتَ همَّتَك وأوقدْتَ طموحك.

فلينظر كل منا إلى صدق إيمانه بربه، وليفتش عن محبته لله  ولرسوله  بين جوانحه، والشوق إلى لقائهما.

وحُبُّ العبد لله وللرسول صلى الله عليه وسلم لا يتمثل فقط في طاعتهما وتنفيذ أوامرهما، بل إن من مظاهِر محبّتِهما الكاملة  ذكرُهما وتذكُّرُهما دائمًا وتمنِّي رؤيتهما  والشوق إليهما والتمتع بالنظر إليهما في الجنان.

ذكرى المولد النبوي تحقق الشوق إلى الرسول وتؤججه :الإيمان عند المسلم يزيدُ ويَنقُصُ، والحُبُّ والشوق من الإيمان، ولقد تأتي على المسلم لحظات تكون فيها نبتَةُ الشوق عنده ذابلةً تحتاج إلى ما يدفعها للنمو كي تكبُرَ وتخْضَرَّ وتُزهِرَ ويفوحَ شذاها و يُثمِر، وهناك مناسبات يكون فيها إذكاءُ الشوق مُيَسَّرا، وتكون قنواتُ القلب فيها مفتوحةً، ومن هذه المناسبات ذكرى المولد النبوي الشريف:

قال محبٌ هيجَتْ ذكرى المولد شوقَه:

يا مولد المصطفى ذكراك تُولِعُنا                بنار شوق إلى لقياك تشتعل

ذكَّرتْنـا ماضيـا نشتـاق عودتــه                  وسادةََ َبأديـم النجـم تنـتعـل

فعندما تُطِلُّ ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم كلَّ عام يسري عَبَقُ هذه الذكرى فرَحاً في النفوس، ويُحدِثُ نورُها نشوةً في الرؤوس، فتتحرك المشاعر، ويَهيج الحب الذي قد يكون راقداً جامدا، وتنتشر من ذلك في النفس عوامل الشوق إلى رؤية رسول الله والتنور بطلعة وجهه الشريف، والتلذذ بالنظر إلى محياه المنور، ويفوح عَبَقُ الحنين والشوق إليه من فؤاد كل إنسان غُرس في قلبه شيء من حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.

وفي غمرة الاحتفاء بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة المُذكِّرة من كل عام، تستيقظ مشاعر حبه وتتوطد، والعهدُ به يتجدد، والحنينُ إليه يزداد، والارتباطُ به يتوثق، وتظهر فطرة الحب بين جوانح القلوب على حقيقتها، وينغرسُ في نفس المؤمن الحنينُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فما على المؤمن المحبِّ العاشق الولهان إلا أن يغتنم هذه المناسبة- وغيرها- فلا تمر عليه إلا وقد استفاد منها خير استفادة، ونمَّى فيها من حبه وعِشْقه وشوقه لمحبوبه صلى الله عليه وسلم، واحتفل بها احتفالا صحيحا مشروعا نافعا، مُنْهِضا للعمل وللهمة رافعا، بعيدا عن الإثم والزلل، غير مُخالِف لما جاء به المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم.

وعلى قَدْرِ عُمْقِ الحب والإيمان في قلب المسلم يكون التعلق بذكرى مولد رسوله، وذلك برهان على العلاقة الوطيدة التي تربطه بحبيبه المصطفى وبرسالته الخالدة، وبالسلسلة النورانية التي أحبَّت رسولَ الله على مر الأيام منذ ولادته إلى الكينونة معه في الجنان.

————

1  ابن منظور لسان العرب (10. 193)

2  رواه  مسلم عن أبي هريرة في  كتاب الجنة ونعيمها.

3  رواه أحمد عن أبي ذر في كتاب مسند الأنصار

4  رواه  البخاري عن أبي هريرة

5  شعر أبو فراس النطافي مجلة الوعي الإسلامي عدد 503  ص 61

6 المسك والعنبر في خطب المنبر لعائض القرني (1. 300 )

7 ابن القيم مدارج السالكين 2. 266

 أحمد المتوكل تاونات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>