لا ريب أن المجتمعات البشرية -على مرّ التاريخ- تتطور باستمرار -بغض النظر عن إيجابية هذا التطور أو سلبيته- وتطورها هذا ينساح عمودياً ويمتد أفقياً. في الأولى يوسع المجتمع نشاطاته المختلفة ويسعى إلى تشكيل مؤسسات جديدة وإلى تحويل خبراته النظرية إلى نطاق الواقع العملي، كما يسعى إلى إجراء تجارب اجتماعية شتى يفشل بعضها ويكتب البقاء لبعضها الآخر.
وفي الامتداد العمودي للتطور نجد أن كل مجتمع يحاول الحرص -بدرجة أو بأخرى- على خبرات ومؤسسات وأنشطة المجتمع الذي سبقه والسعي لتوسيعها. وهكذا نجد أن الامتداد الزمني عامل مهم في توسيع النشاط الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية في شتى مجالاتها.
وهذا يعني -بالنسبة لوضعنا الراهن- أن حضارة القرن العشرين تمثل حصيلة قرون طويلة من الخبرة والتطور الاجتماعي، وتتيح، بما تقدمهللمجتمعات المعاصرة من إمكانيات هائلة، توسيع خبراتها وإنشاء مؤسسات جديدة وإجراء تطبيقات اجتماعية متزايدة، معتمدةً إلى حد كبير على التسهيلات التكنولوجية المعاصرة. وهذا لا يعني -بالضرورة- ان مجتمعات القرن العشرين بلغت القمة في التطور البناء، بل على العكس، أن سوء تصرفها بهذه الخبرات الواسعة وبهذه الكمية الهائلة من الإمكانيات الاجتماعية، أدى إلى فوضوية جماعية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، وحول حضارة القرن العشرين إلى جاهلية قاسية يسودها التمزّق والتبذّل والتطاحن والخوف والرغبة في التدمير على النطاقين الفردي والجماعي مما يهدد الكثير من مكتسبات البشرية بالزوال..
وبما أن المجتمع الإسلامي مجتمع مفتوح ومسؤول، شهد واقعه التاريخي تطوراً خلاقاً في الاتجاهين الأفقي والعمودي، كما حدث لدى خروج المسلمين من جزيرة العرب واحتكاكهم بالمجتمعات الأخرى في بلاد فارس والروم وشمالإفريقيا والأندلس، ومن ثم توسيع نطاق وجودهم الاجتماعي وضم العناصر الاجتماعية الإيجابية السابقة إلى هذا الوجود، فإن من الضروري في الوقت الراهن -من الناحية النظرية ابتداء- توضيح موقف المجتمع الإسلامي إزاء معطيات الحضارة الغربية التي تضمنت خبرات الماضي وأضافت خبرات وأنشطة جديدة، وكونت مناخاً نفسياً قاسياً لمجتمعات يسودها التمزق، ويضعفها التطاحن، ويشل القلق وانعدام الهدف النهائي طاقاتها عن الإبداع، وهذا لا يجعلنا نغفل عن حقيقة أن هذه الحضارة أحدثت توسعاً كبيراً في الفعاليات الاجتماعية، وبخاصة في الآداب والفنون وعلاقات الرجل بالمرأة ووسائل الترفيه، مما لابد من توضيح وجهة نظر الإسلام إزاءها جميعاً..
إنه لابد من الإشارة هنا إلى أن جوانب الحيوية في المجتمع الإسلامي، عبر مساحات واسعة من تاريخنا، هي إتاحة المجال لمفكريه وفنانيه أن يمدّوا رؤاهم المنبثقة عن التجربة الإسلامية إلى شتى أبعاد النشاط الاجتماعي. نجد هذا -مثلاً- في الأندلس في معالجات ابن حزم الرائعة لقضايا اجتماعية دقيقة عديدة، وفي الفلسفة الاجتماعية التي طرحها ابن خلدون في مقدمته، وفي القيم الخلقية الاجتماعية التي حللها ابن مسكويه في كتابه عن الأخلاق، وفي الحلول الاجتماعية الدقيقة التي قدمها كبار رجال الفقه في مذاهبهم الكبرى، وفي مناهج السلوك التي رسمها أئمة مسلمون بلغوا أبعادا عميقة في تسليطهم الضوء على أغوار النفس، وآفاقا بعيدة في تحليل السلوك الاجتماعي، كالغزالي في (إحياء علوم الدين) والمحاسبي في (الرعاية لحقوق الله) والمقدسي في (منهاج القاصدين)، وفي التحليلات الاجتماعية الطريفة التي قدمها الإمام (ابن الجوزي) في عدد من كتبه خص أحدَها بأخبار النساء، وفي المناهج التربوية والنفسية التي وضعها فلاسفة عديدون كابن طفيل في كتابه عن (حي بن يقظان).. وغير هؤلاء كثيرون لايحصيهم العدّ.فالمجتمع الإسلامي مجتمع مفتوح يتيح للفكر الإسلامي المجتهد أن يمد أبعاده إلى شتى الاتجاهات، ويختص بالتحليل شتى الفعاليات التي تنسجم وروح الإسلام. وهذا الانفتاح هو الذي أتاح للمجتمعات الإسلامية في عصورها الحية أن تتحرك وتنمو باستمرار أفقياً وعمودياً، وأن تقدم للحضارة البشرية نماذج رائعة للفعاليات الاجتماعية.
إن دراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية للتاريخ الإسلامي، يحقق لنا نتائج مهمة، منها إبراز حقيقة الحيوية الفائقة التي كانت المجتمعات الإسلامية تتمتع بها، ومنها تحطيم جدران الدراسات السطحية التقليدية للتاريخ والتي تصب اهتمامها على الجوانب السياسية والعسكرية، وعلى التقسيمات الزمانية، والمكانية والتي أوحت خطأ إلى كثير من الناس الفكرة القائلة بأن الإسلام لم يحكم واقع الحياة إلا في فترة محدودة من عصر الراشدين، بينما تبين لنا الدراسات الاجتماعية أن الإسلام، وإن تخلت عنه أجهزة الحكم بدرجة أو أخرى، ظل يحكم المجتمعات ويوجهها، وتتغلغل روحه في أعماق النفوس وتصنعها.. وقد استمر الإسلام يغطي هذه الفاعلية الاجتماعية والنفسية إلى عهد قريب، حيث نجحت محاولات الغزو الفكري في ترسيخ مباديء فصله عن الحياة المتطورة وتجميد قدرته على التوجيه إلى حد كبير..
أ. د. عماد الدين خليل