الوحدة لغة الانفراد والتميز، والوحدة الإسلامية -كضميمة اصطلاحية- رابطة اجتماعية بين مختلف أجناس المسلمين، مبنية على عقيدة التوحيد شعارا، وأخوة الإسلام اعتبارا، يصير بها أفراد المسلمين وجماعاتهم ومؤسساتهم كالجسد الواحد متميزا عن غيره بالعلم النافع والعمل الرافع. وهي تتأسس على جملة أركان يمكن إجمالها فيما يلي:
الأساس الفطري الإنساني
ويمكن أن تنشأ عنه أخوة فطرية، إذ الأصل في مجموع البشر الوحدة، والاختلاف عارض، ويشهد له أن الإنسان اجتماعي بطبعه، ولو مع مخالفه في الاعتقاد والتفكير، متى امتدت جسور السلم والأمان بينهما {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} وتاريخ الإسلام حافل بمواقف البر وشواهد القسط مع المسالمين من المخالفين في الاعتقاد، وخصوصا مع المنضويت تحت سلطانه من أهل الذمة، إذ يحرص الإسلام دينا ودولة على حفظ حقوقهم وأمن روعاتهم، وصون كرامتهم وحرياتهم “لقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
يهود خيبر وبنو قريظة وبنو النضير، ومجوس هجر، فلم يتعرض لأحوال اعتقاداتهم. وبعد فتح العراق، وجدت ملة الصابئة في أهل الذمة، فلم يتعرض لمعتقداتهم؛ وقضية أبي إسحاق الصابئ مع الشريف الرضي ليلة مبيته عنده وقيامه بصلاة الصابئين في آخر الليل معروفة في ترجمتهما”(1).
واليوم، وبعد أن حالت على أمة الإسلام أحوال، تردت فيها من أوج الشموخ والالتئام، إذ كانت أمة عزيزة آمنة الساح والبطاح، إلى درك الخنوع و الاستسلام، إذ صارت أنظمة خاضعة وشعوبا مهيضة الجناح؛ اشرأبت إليها أعناق صناع الفتن -وما تزال- من المتربصين بالإسلام وأهله، من مخابرات ومنظمات ومراكز للدراسات، إلى خلخلة الأوضاع، إذكاء لدعاوى الجاهلية، وتجفيفا لمنابع الاستقرار، وتمكينا للطامعين من بعض قيادات غير المسلمين خاصة، لأجل السطو على حقوق مواطني المسلمين عامة. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مثلا تداعيات ما يعرف بملف الأقباط في مصر، وما عرض أخيرا لكنيسة الإسكندرية، لولا أن قيض الله لها ما أطفأ نار الفتنة من الوعي الشعبي المسلم والقبطي، واحتواء النخبة الدعوية والسياسية المتيقظة للموقف.
الأساس الفكري الإيماني
وتنبني عليه أخوة عقدية بين مجموع المسلمين، ناشئة ابتداء عن وحدة المبدإ والمنشأ “إن ربكم واحد وإن أباكم واحد”. وقد صانها الإسلام من جانب الوجود باعتبارها كمال الإيمان “لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ومن جانب العدم بنحو تحريم تكفير المؤمن “من قال لأخيه يا كافر بغير حق فقد باء هو بها”.
ولعل اقتران آصرة الأخوة بالإيمان لفظا ومعنى كما ورد في الحديثين المتقدمين، وكما في الآية الأصل {إنما المؤمنون إخوة} دون سائر الأواصر الأخرى كالأبوة والبنوة مثلا، مقصود منه فيما هو مقصود، الطاعة العفوية وعدم كلفة التوقير والمهابة والطاعة بين المسلمين، بما يتيح للتواصل فيما بينهم أن يكون عفويا تلقائيا؛ كما يقصد منه عدم استنكافهم من اقتباس محاسن العوائد من مختلف أجناسهم وبيئاتهم، على نحو قول عمر رضي الله عنه
بعد الهجرة “فطفق نساؤنا يتأدبن بآداب نساء الأنصار”؛ ناهيك عن قصد تزكية عواطف المؤانسة والمواساة، وإخماد عواصف الحميات والمعاداة، إذ مما يحز في النفس أن تنطلي الحيلة على بلدين جارين أخوين في الاعتقاد، فتستمر الحرب بينهما ثماني سنوات، إلى حد أن هدد وقتها في أحد المؤتمرات ممثل أمريكا أعظم ممثلي أوربا، إثر خلاف نشب بينهما، بإيقاف الحرب العراقية الإيرانية(2).
الأساس التعبدي الرباني
وتنبني عليه أخوة عملية في الواقع، ناشئة عن وحدة القصد “وأنا ربكم فاعبدون” وذلك بشرع التجمع للمسلمين في الصلوات والحج والجمعات، فضلا عن تقوية آداب المعاشرة بينهم بنحو التحريض على إفشاء السلام وعيادة المريض وشهود الجنائز وقبول الهدايا. ولئن كانت تجليات هذا الأساس أقوى مظهرا في أمة الإسلام -على ضعفها- منه في غيرها على المستوى الشعائري، بحيث لم يبق على الأرض من يعبد الله بشرعه الحق إجمالا غير المسلمين، فإن آثاره على مستوى التعبد التعاملي ما تزال في الغالب منحسرة، وخصوصا على المستوى الرسمي، مما أودى بذوي الفاقات من مسلمي القارات، في إفريقيا وفي غير إفريقيا، إلى أن يكونوا لقمة سائغة لحملات التبشير، واستقطاب الآبقين من بني جلدتنا وغيرهم من الفاشلين في إحداث التغيير، حتى إذا استيأس هؤلاء المستضعفون، ركبوا فيمن ركب قوارب الموت، أو حرقوا أنفسهم بدافع كسر حاجز القمع والصمت، وهي مواقف محظورة شرعا كما أفتى العلماء، إذ حاجة الأمة اليوم إلى من يحيا لأجلها في سبيل الله أكبر من حاجتها إلى من يموت لأجلها في سبيل الله، فكيف بمن يقدم على الانتحار حرقا أو غرقا، ووسائل الاحتجاج والصمود من المأذون به شرعا بحمد الله في سعة.
الأساس الجغرافي السلطاني
إذ لابد لوحدة المسلمين من مكان يؤويها، وسلطان يحميها، حتى تتعاضد سائر الأخُوَّات في كنف اتحاد الدار والقرار. وهو من أعظم الحكم المستخلصة من مشروعية الهجرة النبوية، وإيجاد المدن لإيواء المسلمين، وطاعة أولي الأمر من الراسخين في العلم الشرعي، أو المسندين بأمثالهم، إذ مطلق الأمر بطاعة أولي الأمر في آية النساء مقيد بما ورد في آية آل عمران “لعلمه الذين يستنبطونه منهم” “فإن أولي الأمر هم العلماء على أظهر الوجوه عند المفسرين”(3).
وإذا غاب العلم الشرعي المقصود بالتعبد به ابتدأ إخراج المكلف عن داعية هواه، لم يبق إلا تحكيم الأهواء في معالجة قضايا المسلمين، نحو توترات الحدود التي هي من مخلفات الاستعمار كما هو معلوم، إذ ينبغي تطهير بلاد الإسلام التطهير الذاتي من هذه الفتن، بكافة الوسائل السلمية مسندة بحقائق التاريخ، وإلا كان على الأنظمة الباغية وزر حرمان المسلمين من تزكية القدرات وتنمية الثروات وتبادل الخبرات وصون الكفايات سدا للحاجات، فضلا عن وزر تقطيع الأرحام وخرم الأمن والسلام.
وإن مما يندى له الجبين أن يصر نظام أكبر دولة عربية مسلمة، وقد حيزت له مباهج الدنيا بحذافيرها، على إغلاق حدوده في وجه مليون ونصف مليون أعزل من مستضعفي المسلمين، وقد بلغ منهم الحصار والعدوان مبلغ العنفوان، حتى إذا أنزل الله السكينة عليهم، وعاد العدو الصهيوني المتوحش من الغنيمة بالإياب، استمر النظام في الخذلان والارتكان إلى الذين ظلموا، إذ شرع في بناء الجدار الفولاذي بين الرفحين الأخوين، وهما في الأصل رفح واحد، خنقا لما تبقى من أنفاس، وكأنه يقول لإخوتنا في غزة “موتوا وليحيا الكيان الصهيوني” كما قال فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في فتوى تحريم بناء الجدار.
وأما ما يدمي القلب حقيقة، فهو ما يجري في السودان من زمن بعيد، من الكيد لمسلميه، وهم غالب أهله، من قبل المتربصين به الدوائر داخله وخارجه، حتى أرغموه على القبول بإجراء الاستفتاء المعبد لانفصال الجنوب، لا قدر الله، وهي الخطوة الممهدة لانفراط عقد أساسه الجغرافي السلطاني، ونسأله سبحانه لإخوتنا في السودان اللطف في قضائه.
الأساس التاريخي العمراني
إذ التجربة التاريخية لبلاد الإسلام بعمرانها المادي والمعنوي شاهدة على تشبع أهلها بروح الإسلام، حيث تم إعداد قياداتها الراشدة الرائدة وجندياتها الصابرة الصامدة وفق قيمه، حتى إذا ما انقضت القرون السبعة السمان، وآل الأمر غالبا إلى الانحدار في السبعة العجاف، ظل حس التدين في الأمة، على ما اعتراه من البلى، نابضا، فانبرى مجتهدو العلماء بفضل الله إلى تجديده، وبنت عليه حركات المقاومة الوطنية في سائر بلاد الإسلام المستعمرة مشروع الاستقلال، لولا ما وقع عليه من السطو والالتفاف، إذ غالب المقاومات العارية عن التحصين الكافي محفوفة بالاختطاف.
وتاريخ الإسلام يسجل أن الأمة عند البلاء والعناء، ترجع أول ما ترجع إلى علمائها، ولنا أن نذكر بعد دخول الاستعمار وقبله، ما حدث عقب سقوط بغداد، إذ التف أهل العراق سنة وشيعة تحت السقف الواحد في المسجد الواحد حول العلماء في خطب الجمعات، ولنا أن نذكر خطب الشيخ الدكتور أحمد الكبيسي الداعية السني المعروف حفظه الله، وهو يدعو بها إلى وحدة الكلمة ورص الصف ضد الاحتلال، مما كان لمثل جهده الطيب أثره الطيب إبان الأزمة، وربما استمر إلى حين انسحاب التيار الصدري من المقاومة، حيث دخل البلد في فتنة يشيب لهولها الولدان، مطبوخة بتوابل إيران والأمريكان، ومباركة السيستاني والمالكي وما بينهما، ممن كشفت جمعية علماء المسلمين في العراق، بقيادة الشيخ الدكتور حارث الضاري حفظه الله جرائمهم وكبائرهم، وأكدت وثائق ويكلكس دسائسهم وتآمرهم.
واليوم، وقد رنا شباب تونس الخضراء إلى الحرية، بعد حصاد حوالي ربع قرن من سواد القمع والاضطهاد، إذ حاول صاحبه المخلوع بغباء إطفاء شعلة الإيمان ونور التدين الجماعي في الوجدان، فآل إلى ما آل إليه أمر فرعون، وما أمر فرعون إلا في تباب، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت بالذي آمنت به بنو تونس.
وإن ما آمن به بنو تونس، أحفاد ابن أبي زيد القيرواني وابن عرفة وابن خلدون، وأبناء محمود قبادو والطاهر بن عاشور، إنما هو الخروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور النظام إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الاستبداد والعناء إلى سعة الحرية والهناء. وعسى أن يهيىء الله لتونس العالمة، وقد خرجت جماهيرها في احتجاجات عفوية من غير قيادات، من يسمع كلام الله ويسمعها وينقاد إليه ويقودها، إذ الخير كل الخير بمقتضى هذا الأساس في استلهام روح مغرب القرويين وجزائر ابن باديس وتونس القيروان والزيتونة وموريتانيا شنقيط ومصر الأزهر، يوم كانت هذه المدارس في أوجها تصنع للأمة قوادها وجنودها وأئمتها ودعاتها.
الأساس اللغوي اللساني
إذ يمكن اعتبار العربية نواة وحدة لغة التفاهم بين أجناس المسلمين، بما شرع الإسلام من تعلم شيء من القرآن “فاقرؤوا ما تيسر منه”(4) وهي متميزة عن سائر اللغات بقوة مناعتها، بدليل أن تقهقر أهلها لم يوجب اجتثاثها بقدر ما أوجب ضعفها، وعسى أن تثمر جهود الغيورين من أبنائها من أمثال أستاذنا فضيلة الدكتور الحسين كنوان حفظه الله، ما يعود بها إلى عافيتها في كنف وحدة أمتها.
——
1- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للسيخ الطاهر بن عاشور ص173 الشركة التونسية للتوزيع من غير تأريخ.
2- عن الدكتور محمد راتب النابلسي تفسير سورة الأنفال الدرس16.
3- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص174.
4- ينظر المرجع السابق ص134.
ذ. عبد المجيد بالبصير