علم الخلاف وبعض وظائفه التربوية والإصلاحية


تقديم:

لا يشك أي باحث في العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية في أهمية دراسة الخلاف البشري عامة، ودراسة الخلاف العلمي بين العلماء والمتخصصين في المجالات العلمية خاصة لما تسمح به هذه الدراسة من الوقوف على أصول اختلاف البشر ودواعي اختلاف العلماء في المجالات العلمية، وأسبابها وآدابها وضوابطها وحدودها، وسياقاتها الاجتماعية والتاريخية، وأهدافها العلمية والعملية، وآثارها التربوية في تأهيل الناشئة للاقتدار على معرفة المذاهب والآراء وفحصها فحصا علميا، والاقتدار على الترجيح فيما بينها بالمرجحات العلمية المسموعة بين أهل الخلاف وفق منهج العدل والإنصاف من غير جور ولا إجحاف إذ قل أن تجد مخالفا بحق غيره معترفا ولخصمه منصفا، وتدريب الطلبة على الحوار العلمي الرصين بتوظيف قواعد وآداب وشروط إبلاغ الحق المبين، والاعتصام بحبل الله المتين، ولهذا عرف بعض العلماء علم الخلاف بأنه:”معرفة كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبه، وقوادح الأدلة بالبراهين القوية، لحفظ أحكام مسائل الخلاف الواقع بين الأئمة، أو هدمها”

ولما كان الخلاف العلمي في المجال الشرعي خلافا مشروعا تدعو إليه مسوغات علمية، وتضبطه ضوابط أخلاقية، تحقق له الضبط وتحفظه من الخبط، فقد عني به المسلمون عناية خاصة حتى صار واحدا من العلوم الشرعية الضابطة للاجتهاد العلمي في الفقهيات واللغويات والعقليات على حد سواء. ويكفي للتعرف على أهمية هذا العلم أنه يحتاج إليه بنفس القدر في العلوم الشرعية وفي العلوم الإنسانية وفي العلوم البحتة -لوجود الخلاف فيها على حد سواء-، وهو القمين بتخريج مجتهدين مصلحين متمكنين من روح الاجتهاد والإصلاح ومقتدرين على التعامل الإيجابي مع المخالف أيا كان نوعه وقدره.

وفي هذا المقال نكتفي بالتنبيه على بعض الفوائد التربوية التي ينبغي استحضارها عند تعلم أو تعليم علم الخلاف الفقهي والأصولي وأثره التربوي في تكوين جيل من العلماء المجتهدين القادرين على مواجهة تحديات الأمة في المرحلة المعاصرة كما كان في المراحل السابقة، ومن الأبواب التي درج العلماء على تناولها في هذا العلم تناول مفهومه والفرق بينه وبين كلمات مرادفة له، وبيان الفرق بينه وبين علوم قريبة منه كعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم الكلام والدراسات المقارنة وعلم الجدل والمنطق والمناظرة، وبيان حكمه وأنواعه ومجالاته وشروطه وأسبابه وآدابه ومنهج الاستدلال والاحتجاج في مسائله، وأغراضه وفوائده، وهي كلها أبواب تنطوي على أهداف ومقاصد تربوية وإصلاحية ذات نفع عميم، نبين نماذج منها في الفقرات التالية:

> على مستوى معرفة مجالات الخلاف: يقسم العلماء مجالات الخلاف إلى ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز:

أولا: مجال ما لا يجوز الخلاف فيه وهو مجال القطعيات الشرعية والعقلية والمعلوم من الدين بالضرورة، وهذا النوع من الخلاف هو الخلاف المذموم المرذول والمحرم شرعا وعقلا لما فيه من إهدار للمصالح وتفويت لها وإلغاء للحق وتمكين للباطل،

ثانيا: مجال ما يجوز فيه الخلاف، وهو مجال الظنيات التي لا قاطع فيها من العقل أو الشرع، وتتفاوت فيها أنظار العلماء، ويسوغ فيها الاجتهاد الصادر من أهله وفي محله وبشرطه، وهذا النوع من الخلاف هو الخلاف السائغ والجائز لوجود مسوغاته، ولتعذر رفعه، ولما فيه من تيسير وتوسعة على العباد وتفتيق للأذهان وفتحها على إمكانات جديدة وواسعة تساعد على تكوين ملكات الإبداع النافع وتطوير الحياة.

وهنا يستفاد من هذا الجانب وجوب تربية الناشئة على عرض كل خلاف على الميزان الشرعي، ورد كل متنازع فيه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

؛ حيث يتم التخلص من كثير مما يتوهم أنه خلاف وهو ليس كذلك، وهذا يمكن من تقريب الهوة بين المختلفين، وجعلهم متآخين ومتآلفين ومتحابين، إذ لولا وجود القطعيات الشرعية والعقلية لاتسع الخلاف وانتشر ولما انضبط وانحصر.

ويساعد هذا المبدأ على تنشئة جيل من العلماء القادر على ممارسة الاجتهاد وتجنب الخلاف فيما لا يجوز فيه الخلاف، وهذا هو الذي يفسر لماذا اشترط العلماء في بلوغ رتبة الاجتهاد العلم بالخلاف، كما قال الشاطبي:”من لم يعرف الاختلاف لم يبلغ رتبة الاجتهاد”.

فما أحوج الأمة إلى العلماء والمجتهدين الحريصين على الاجتهاد في ما يسوغ فيه الاجتهاد، والحريصين على وزن خلافاتهم بالشرع الصحيح والعقل الصريح، ورد المتنازع فيه إليهما!!

> على مستوى معرفة أسباب الخلاف ذلك أن الخلاف السائغ له أسبابه التي تستلزمه وتستدعيه، وموجباته التي تحتمه وتقتضيه منها ما يرجع إلى الطبيعة الظنية لبعض نصوص الشرع من حيث الدلالة والثبوت، ومنها ما يرجع إلى تفاوت العقول، واختلاف القرائح والعقول، واختلاف الأنظار باختلاف الذوات والمجتمعات والأمصار والأعصار، وتفاوت الحصيلة العلمية والمعرفية للعلماء، واختلاف مناهج النظر والتفسير، والتوجيه والتقدير، وأصول الفهم والتأويل، وقواعد التفريع والتأصيل، وتباين حيثيات التعليل وكيفيات التنزيل.

أما الاختلاف المذموم فترجع أغلب أسبابه إلى الجهل والتعصب والهوى والشبهات والشهوات، لذلك كان مذموما وغير مقبول لتهافت أسبابه ورجوعه إلى ما أبطله الشرع لأن ما بني على الباطل باطل.

ويستفاد من هذا الجانب وجوب تربية طلبة العلم والناشئة على التفقه في أسباب الخلاف وتأهيلهم للتمييز بين الأسباب المشروعة والأسباب الممنوعة، وبناء الاجتهاد على الأولى دون الثانية، وتجنب الثانية ما أمكن، وذلك بتحصيل العلم الشرعي والتفقه كثيرا في الشرع وفي أصول المذاهب واكتساب ملكة الفحص الدقيق لها، وعرضها على موازين الشرع، فيتمكنون بذلك من تقدير اختلافات العلماء وإعذار أهلها ورفع الملام عنهم لأنهم اجتهدوا في مسائل العلم عن علم واختلفوا بعلم مع تحري الإخلاص والصواب.

كما يفيد تعلم أسباب الخلاف وتعليمها في ترشيح طلبة العلم على الاجتهاد بضوابطه والاختلاف بآدابه وشروطه، مما يمكن الأمة من الحصول على علماء مقتدرين على المشاركة في الحياة العامة وحل المشاكل المستجدة وحل النزاعات المذهبية والخلافات الفكرية والخصومات السياسية بعلم وحكمة، والتعامل مع أهل الخلاف تعاملا إيجابيا ومثمرا، فيه إنصاف وإعذار،  يحقق ـ مع الاختلاف ـ كل مظاهر الغنى والسعة والرحمة، والتنوع والائتلاف والتلاقي والاستقرار، ويبعد الأمة عن كثير من ألوان التعصب المشؤوم والتفرق المذموم، ويخلصها من تجرع مرارات الظلم والاستبداد والاستعباد، ويجنبها الدخول في الحرب والتنافي والاستبعاد.

> على مستوى معرفة آداب الخلاف فقد أسس العلماء المسلمون في هذا الباب قواعد التعامل مع المخالف جل نفعها وقل نظيرها، تصب في مجملها في:

أولا: وجوب الالتزام بأحسن الآداب وانتهاج ألطف الوسائل والأسباب، بما يحفظ له كرامة المخالف ويضمن حقه في الخلاف وفي الدفاع عن رأيه بعدل وإنصاف بما يملك من الحجج القوية من غير ظلم ولا إجحاف إلى أن يتضح الحق، فيذعن الكل له، ويلتزم الجميع بقبوله والعمل به.

ثانيا: وجوب ترك كل ما من شأنه أن يسيء إلى المخالف كالغصب والتحقير والإقصاء بدون حجة أو دليل والتجهيل والظلم… لما في الأخلاق السيئة من هدر لكرامة المخالف، ومصادرة لحقه في الاجتهاد، ومن إمكان ترك العمل بالحق الذي يمكن أن يكون معه.

ويستفاد من هذه القواعد الخلقية والعقلية والمنهجية في مجال التربية والإصلاح وجوب تدريسها وتربية النشء على التشبع بها تحققا وتخلقا لما في ذلك من تمكين الأمة من:

- تخريج جيل من العلماء  المتشبع بأخلاق القرآن وحكمته ومتأسٍ بأخلاق من كان خلقه القرآن الكريم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

في التعامل مع المخالف.

- تكوين جيل من أبناء الأمة حريصٍ على الأخوة والتآخي، والوحدة والتلاقي، والتعاون والتناصح والتناصر على كل ما يصلح الأمة، مقتنعٍ بأن الاختلاف لا يعكر صفو الأخوة، ولا يعمق الشقة والهوة، ومؤمنٍ بأن الاختلاف المشروع سبيل قويم لتطوير الحياة، ونهج سليم لإغنائها بتبادل الخبرات وتناصحها، والاجتهادات وتلاقحها، وتصرف حكيم لتحقيق الخير والإيناس، والتوسعة على الناس، والتنعم بنعمة الأمن والسلم والاستقرار.

> وعلى مستوى حل الخلاف ورفعه وضع العلماء قواعد لذلك هي التي عرفت بأدب الحوار والمناظرة وهو علم لصيق بعلم الخلاف ورديف له يختص بوضع القواعد الكفيلة بالخروج من حالة الاختلاف والتعارض إلى الوفاق والائتلاف والتعاضد، وفي كل من علمي الخلاف والمناظرة يتدرب الطالب على أساليب الاستدلال وشرائطه في الترتيب والإنتاج ومسالك القدح في الدليل والترجيح بضوابطه وشروطه، وطرق التفصي من حالة التعارض وتكافؤ الأدلة، مما يفضي إلى تكوين فئة من العلماء قادرة على النظر والمناظرة، ومؤهلة للاجتهاد العلمي وحل التعارضات وتطوير العلوم، والإسهام في الإصلاح الاجتماعي والفكري، والتواصل الإيجابي مع الآخر المخالف من داخل الملة والأمة أو من خارجهما.

ويظهر مما سبق أن علم الخلاف من العلوم المساعدة اليوم في استرجاع الأمة مكانتها وهيبتها لأنه علم يهدف إلى تكوين متعلمين أكفاء في مجال تدبير الخلاف وإتقان أساليب الحوار والتواصل، وممارسة الدبلوماسية الناجحة مع المخالفين بما يحقق الحق ويحفظ الأخوة، وتخريج طاقات مؤهلة للاجتهاد والتعاون المشترك في حل المشاكل العلمية المستعصية وحل الخلافات الفكرية والمذهبية بالطرق العلمية والأخلاقية، التي لا تفوت الحق المطلوب ولا تهدر كرامة الخصم غير المحبوب!!

ولذلك يظهر حجم الخسارة التي لحقت الأمة وهي تهمل تدريس هذا العلم وتربية الناشئة على قواعده وشروطه وأساليبه:

فقد فقدت كثيرا من أبنائها في حروب الغزو الفكري وهجرة الكفاءات والسواعد، لضعف المناعة الفكرية وفقدان خلق الاعتزاز بالذات، وشيوع التقليد الأعمى لكل مظاهر الانحراف والاستلاب، وشل القدرة على الحوار والإقناع لطول عهد تسلط السيوف على الرقاب.

كما فقدت الأمة كثيرا من أبنائها داخليا بسبب الموت في ساحات الحرب والاقتتال، بسبب الموت البطيء وال%