حينما وقفت قبل حَوَالي عشرين سنة على الآثار الإسلامية في الأندلس الكبرى شبه الجزيرة الإيبيرية وخاصة في قصر الحمراء بقرطبة ومسجدها هناك، وشاهدت ما تخلّل جُدْرانها من كتابات عربية بالحرف العربي طبعا، شعرت بغربة هذا الحرف هناك بعدما كانت له الصولة على ألسنة علماء الأندلس وفقهائها وأدبائها وشعرائها واستحضرت موقف عبد الرحمن الداخل حينما شاهد نحلة.
وتعمق شرخ هذا الشعور أكثر بما حفّ هذه الكتابات العربية من كتابات بالإسبانية تحكي مأساة الفردوس المفقود وبداية محاكم التفتيش، فازداد مظهر هذا الحرف الجميل غربة وازداد اتساع هذا الشّرْخ حينما شاهدت لافتات لبلدات احتفظت بأسمائها العربية، لاسيما على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة، وطبعا فإن اللافتات مكتوبة بالحرف اللاتيني، لكن عروبة الاسم واضحة للعيان.
كان هذا الإحساس قبل حوالي عقدين من الزمن أو يزيد، ثم دار الزمان دورته، وقُدِّر لي أن أزور بعض دول وسط آسيا، من الجمهوريات التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي البائد، فتبدَّت لي هناك من جديد غربة للحرف العربي في واجهتين أيضا : واجهة الآثار الإسلامية المكتوبة بالعربية وبالحرف العربي طبعاً، وواجهة هذه الآثار ذاتها المكتوبة باللغات المحلية بالحرف العربي. لقد أصبحت مجرد آثار لأن القوم هناك يستعملون حاليا الحرف الروسي لكتابة لغاتهم المحلية، بعد أن فرضها عليهم الاحتلال السوفياتي البائد.
وكم كان الحزن أشد حينما شاهدت صورة للمصحف العثماني بخط الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه
بتركيا وهو محفوف بالكتابة التركية التي تكتب حاليا كما هو معلوم بالحرف اللاتيني، فكان المصحف الشريف غريبا هناك بحرفه، وإن لم يكن غريبا بعقيدة القوم الذين يحاولون حمل المِشْعل من جديد.
ثم بعد هذا يرتد البصر حسيراً إلى هذا البلد العزيز، المغرب، حيث تملأ اللافتات الإشهارية الشوارع، والمكاتبات الرسمية أروقة الإدارات، دون أن تجد أثراً للحرف العربي. لقد أصبح غريبا كل الغرابة، وكم كما ألمي كبيراً حينما كنت أتأمل لوحة إشهارية كبيرة على جدران إحدى العمارات بفاس، فشدني كثرة الكلمات والأسماء العربية بها، لكن دون أي أثر للحرف العربي :
- الامام مالك : اسم شارع
- أبو حيان التوحيدي : اسم شارع
- الوفاء : اسم هيئة مالية
- شيماء : اسم شركة
- الزهور : اسم حي
- البركة : اسم عمارة..
واللائحة طويلة.
كل هذه الأسماء مكتوبة بالحرف اللاتيني باللغة الفرنسية، فقلت سبحان الله هل كُتب على الحرف العربي غربة في بلاده، في بلاد ابن خلدون وابن بطوطة ومالك بن المرحل واليوسي وعبد الله كنون والمختار السوسي.
إن العديد من الجهات والأفراد حينما تكتب لافتة أو رسالة أو دورية لا تنتبه إلى أهمية اللغة وخطورة استعمال اللغة الأجنبية، ومن تم لا يترددون في استعمالها، وقد يكون الدافع عند البعض أن العربية لغة القرآن ومن ثم لا ينبغي أن تكتب في أوراق قد يدوس عليها المارة بعد أن تقذف في الطرقات، فيأثمون لذلك، وقد وقد…
لكن على كثرة ما قدْ يرِد من “قد”، فإن هناك أياد تريد طمس الحرف العربي من هذه البلاد، وليس الحرف العربي هو المراد فقط، بل بما يحمله هذا الحرف من تراث ذي صلة بالدين والمعتقد والحضارة والثقافة. ولذلك لابد من الانتباه إلى هذا الكيد الذي يُراد باللغة العربية بإعادة الاعتبار لها من جديد، والكل مسؤول عن ذلك أفراداً وجماعات وهيآت ومؤسسات ووسائل إعلام….
فمتى يعود الحرف العربي مألوفا في بلاده وتُزال عنه غربته؟؟
د. عبد الرحيم بلحاج