مراعاة الإمام مالك مقاصد الشريعة في فقهه وفتاويه


المذهب المالكي أكثر المذاهب مراعاة لحكم الشريعة ومقاصدها، ويتجلى ذلك بوضوح في طبيعة الأصول التي قام عليها هذا المذهب، والتي كان الإمام مالك يبني عليها الكثير من أقواله وفتاويه؛ خاصة في الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات، ومنهجه في ذلك مستفاد من منهج السلف رضوان الله عليهم خصوصا عمر بن الخطاب وابنه عبدالله، فقد قرر منهجهم في أقواله وفتاويه، التي يسلك فيها مسلك التعليل ويراعي فيها المقاصد ومآلات الأفعال والنيات والعوائد والأحوال في مسائل الفتوى والأحكام؛ وبنى الكثير من فتاويه على أصل سد الذرائع الذي هو اعتبار للمآل في جلب المصالح ودرء المفاسد ويعد من القواعد الأساسية في فقه الشريعة. وقد قال الشاطبي: ((إن مالكا حكم سد الذرائع في أكثر أبواب الفقه))(1).

والاعتماد على الذرائع سدا وفتحا من قبيل العمل المقاصدي الذي يراعي الجانب المصلحي للأحكام؛ حيث يتناول مبحث الذرائع الوسائل والطرائق وما تفضي إليه من نتائج وآثار من حيث التحليل أو التحريم، من حيث القصد وعدمه، أو من حيث العبادة والمعاملة أو من حيث سلامة الفعل وغيره، وما أشبه ذلك مما يفضي إلى غير المقصود الشرعي. ومن ثم قد أعطى الشارع حكم الأثر المترتب على الفعل لنفس ذلك الفعل، ولو كان الفعل في حد ذاته سليما من جهة الشرع)) إذ أن ميزان التحكيم في شأن الفعل في هذه الناحية ليس هو ذات الفعل وإنما هو الأثر أو النتيجة التي أفضى إليها ذلك الفعل نفسه(2).

والاستحسان كان يراه: “تسعة أعشار العلم”(3)؛ لأنه يقوم على التيسير ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.

وبين فارس المقاصد الإمام الشاطبي بعض معاني الاستحسان الذي هو أخذ بالمصلحة عند المالكية قائلا:

((الاستحسان في مذهب مالك:الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي. ومقتضاه: الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس؛ فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك، وكثيرا ما يتفق في هذا الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي)) فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده)) فيستثنى موضع الحرج، وكذلك في الحاجي مع التكميلي، أو الضروري مع التكميلي))4.

ومذهب مالك في المعاملات الوقوف على المعاني؛ بخلاف العبادات التي كان يقف فيها على النصوص(5).

وإذا كانت مقاصد الشريعة تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد؛ فإن الإمام مالك هو حامل لواء الأخذ بالمصلحة المرسلة؛ لأنه جعلها أصلا مستقلا بذاتهثم أكثر من الأخذ بها، واسترسل فيها استرسالا بليغا؛ حتى أنكر عليه بعض العلماء بعض وجوه أخذه بالمصلحة، وعدوا ذلك خروجا عن ربقة الدين وتشريعا بالتشهي والهوى.

والإمام مالك أبعد ما يكون عن ذلك.

وكان -رحمه الله- يراعي المصلحة في الحاجيات والضروريات.

وكذلك الشأن في الأخذ بسد الذرائع التي تقوم على قطع وسائل الفساد وسد أبوابها، وفتح أبواب المصالح وتيسيرها وذلك مقصد من مقاصد الشريعة.

وسد الذرائع فيه اعتبار للمآلات وجلب المصالح ودرء المفاسد، ما أمكن الدفع والجلب؛ فإنه لما كان مقصود الشريعة إقامة مصالح الدنيا على طريقة تحكم فيه بحكم الدين المسيطر على الوجدان والضمير، ودفع الفساد ومنع الأذى حيثما كان؛ فكل ما يؤدي إلى ذلك من الذرائع والأسباب يكون له حكم ذلك المقصد الأصلي، وهو الطلب للمصلحة، والمنع للفساد والأذى.

واعتبار أصل الذرائع بالسد أو الفتح  يعد من وجه توثيقا لمبدإالمصلحة الذي استمسك مالك بعروته؛ فهو اعتبر المصلحة الثمرة التي أقرها الشارع واعتبرها ودعا إليها وحث عليها؛ فجلبها مطلوب، وضدها وهو الفساد ممنوع)) فكل ما يؤدي إلى المصلحة بطريق القطع أو بغلبة الظن يكون مطلوبا بقدره من العلم أو الظن، وكل ما يؤدي إلى الفساد على وجه اليقين أو غلبة الظن يكون ممنوعا على حسب قدره من العلم)) فالمصلحة بعد النص القطعي هي: قطب الرحى في المذهب المالكي، وبها كان خصبا كثير الإثمار(6).

ولعل أكثر الأبواب الفقهية التي حكم فيها مالك والمالكية سد الذرائع، هي: أبواب البيوع، والعقوبات، والمناكحات.

ففي مجال البيوع يبطل المالكية ومعهم الحنابلة : البيوع التي يظهر فيها القصد الفاسد، المخالف لقصد الشارع: كبيع العينة؛ فإنه يفضي إلى مفسدة الربا، وكبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لأعداء المسلمين، أو لأهل الفتنة والعدوان، وبيع أرض لتتخذ كنيسة؛ لماتجره هذه البيوع من مفاسد وأضرار ظاهرة.

أما الحنفية والشافعية: ففرقوا بين صحة العقد وفساد القصد؛ فالعقد عندهم صحيح ما دام مستوفيا لشروطه الظاهرية، والقصد أمره إلى الله…، ويظل المذهب المالكي رائد المذاهب في مراعاة المقاصد وبناء الأحكام عليها(7).

ومن أمثلة ذلك:

1-ما أورده مالك فيما يكره من بيع الطعام إلى أجل عقب إيراده قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار في النهي عن: بيع الرجل حنطة بذهب إلى أجل، ثم يشتري بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب(8).

قال مالك -في تعليل ذلك-: وإنما نهوا عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب)) ثم يشتري الرجل بالذهب تمرا، قبل أن يقبض الذهب من بيعه الذي اشترى منه الحنطة)) فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها الحنطة إلى أجل تمرا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمر التمر فلا بأس بذلك.

قال مالك: وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم فلم يروا به بأسا(9).

فمالك فسر النص تفسيرا مصلحيا)) ولم ير بذلك بأسا لعدم التهمة.

وعن مراعاة المالكية لمقاصد المكلفين يقول الدكتور الريسوني في حديثه عن اعتبار الشاطبي مقاصد المكلفين:

((ولكنه مدين في هذا-على وجه الخصوص-لمذهبه المالكي، الذي لم يقف عند حد العناية بمقاصد المكلفين فيما يسمى بالعبادات، ولكنه أولى العناية البالغة لمقاصد المكلفين في جميع أقوالهم وأفعالهم وعقودهم وتصرفاتهم…))(10).

وموطأ الإمام مالك يحتوي على مادة مقاصدية غنية تتجلى في كثير من أصوله: كالمصلحة، والاستحسان، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف.

وإذا أضفنا إلى هاته الأصول تطبيقاتها؛ فسنكون أمام مادة غزيرة جدا.

وسيتسع الأمر أكثر إذا أضفنا بعض عبارات الإمام مالك المعللة للأحكام والواردة في المدونة وهي آراء الإمام مالك الفقهية جمعها ودونها سحنون بن سعيد التنوخي.

ولخص الدكتور نورالدين الخادمي مظاهر المقاصد المستفادة من الأدلة الأصلية لدى المالكية؛ فأورد منها:

أولا: إقرار كبرى غايات الوجود الكوني وأهداف الحياة الإنسانية العامة المتمثلة في تثبيت الامتثال الكلي والانصياع التام إلى تعاليم المشرع الحكيم، وفي تحقيق صلاح الخلق وسعادتهم في الآل والمآل.

ثانيا: إقرار الكليات الخمس-حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال-التي روعيت في الكثير من أحكام الكتاب والسنة ومعلومات الإجماع والقياس.

ثالثا: إقرار علل الأحكام وحكمها الجزئية التي أنيطت بها أحكامها من حيث الوجود والعدم.

رابعا: إقرار كثير من المقاصد الإجمالية: التيسير-التخفيف-رفع الحرج-التي تظافرت كثير من النصوص والاجتهادات الشرعية على تثبيتها والاعتداد بها.

خامسا: إقرار وجوب الالتفات إلى المعنى والمقصد والروح وعدم الاقتصار على الظاهر والشكل والمبنى(11).

>عبدالكريم القلالي- ترجيست

Karim_kallali@targuistcity.net

————

1الشاطبي، الموافقات، تحقيق: عبدالله دراز، ج:4، ص:198.

2نورالدين مختار الخادمي، المقاصد في المذهب المالكي(خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين)، ص:281.

3علي بن عبد السلام التسولي، البهجة في شرح التحفة، فصل: في اختلاف المتراهنين، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، ج:1، ص:291.

4الشاطبي، الموافقات، ج:4، ص:207.

5وذلك لا يعني أن العبادات غير معللة أو لا حكمة وراءها)) بل إن كثيرا منها تخفى حكمتها )) وعدم معرفة بعض الحكم والغايات لا يعني عدم وجودها.

6أبو زهرة، مالك عصره آراؤه وفقهه، ص:352.

7الدكتور أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص:80.

8الإمام مالك، الموطأ، باب: ما يكره من بيع الطعام إلى أجل،، ج:2، ص: 643.

9المصدر نفسه.

10الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص:317.

11نورالدين الخادمي، المقاصد في المذهب المالكي، خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين،ص:219.

 

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>