فشل المناهج الوضعية وتألُّق منهج الإسلام


عاش العالم الإسلامي مدة طويلة ملتزما بمبدأ واحد، ومنهج  واحد لا يحتكم إلا إليه، ولا يعول إلا عليه، ولا يستفتي في شؤون حياته وما بعد حياته غيرَه، ولا يفكر في حل لمشكلاته إلا على أساسه وبالاستمداد منه، ذلك المبدأ وذلك النظام هو الإسلام، الذي ارتضته هذه الأمة، وارتضاه الله لها وأتَم به عليها نعمته، {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(المائدة : 3)، وكانت الأمة توقن بأنه سر قوتها، وينبوع سعادتها، وصانع حضارتها، ورافع ذكرها بين الأمم، ومحقق نصرها، والذي تحقق لها من ذلك  فبسبب التمسك بهذا المنهج والاهتداء بهديه، وكل ضر أصابها، وكل هزيمة لحقتها، فبسبب التفريط في هذا المبدأ والبعد عن تعاليمه.

وكان الاعتزاز بمنهج الإسلام هوخُلُق المسلمين، حيث كان أساسا لتربيتهم، و برنامجا لسياستهم، وقانونا لحكمهم، ونظاما لتعليمهم، ودواء لأمراضهم، ومنهجا لاقتصادهم، بل معتمدهم في كل شيء، وتبدلت الأمور، وتبلَّدت العقول، ورانت الذنوب على القلوب، وأعمى حب الدنيا البصائر والأبصار، وغزا العالمَ الإسلامي زحف صليبي منظَّم عات حاقد كائد، بعدما صادف تخلفا في العلم، وجمودا في الفكر، وانحباسا وتقليدا في فقه الدين والعمل به، وركودا في التجديد والإبداع، وقصورا في التربية والتعليم، وانحطاطا في الهِمم، وفسادا وانحرافا في الحكم، وخضوعا وتبعية تكان تكون عامة، وتبريرا وتزكية من كثير من العلماء ذوي الأطماع، وانحطاطا عاما عاما في كل ميادين الحياة الإسلامية، ودخل العدو الزاحف -في القرن الماضي- المتفوق في كل المجالات أرض المسلمين واستولى على خيراتهم واستعبدَهم، واتجه إلى تدمير العقائد والأفكار، وشل الإرادات، واستنزافالطاقات، ونهب الثروات، وإفساد الأخلاق، وقتل الغيرة والمروءات، وزَعزَعةِ الثقة بهذا الدين، والتشكيك في القطعيات، والطعن في المسَلَّمات، والقضاء على الآداب والتقاليد، بمعاول خفية، وبأساليب ماكرة، تخفى على العامة، ولا يتفطن لها إلا الأذكياء الألِبَّاء، وربى تلامذة على نهجه وبعثهم ليتعلموا في بلاده،- وكان ذلك أهم ما قام به- فتشربوا فكره، وتلقفوا تقاليده، وخطوا خطوه، ونابوا عنه، وواصلوا المسيرة من بعده، وزادوا من عندهم، وتجرؤوا على ما لم يقدر عليه، ونشروا أفكاره، ودافعوا عن بقائه، وأشادوا به “وبإصلاحاته وخططه” وتبنوا المناهج  الوضعية الدخيلة المستوردة من أرض غير أرضنا وقوم غير قومنا، المعادية للإسلام، القاضية على مبادئه، الناسفة لبنيانه، المضيعة لطاقاته، المفرقة لشمل المسلمين، واتبعوا مناهج فاسدة مفسدة ومفلسة كالاشتراكية والقومية واليسارية والرأسمالية والعلمانيةوالليبرالية  والنزعات الوطنية والقومية…

فشل المناهج الوضعية 

لقد جُربت في ديار المسلمين هذه المناهج الأرضية والمذاهب الوضعية، فما أفرزت إلا الأزمات والانهزامات والانقسامات، وتسلط الأعداء من كل مكان، فأفلست وانهارت كل هذه الأنظمة، وخصوصًا الشيوعية التي زعمت يومًا أنها ستغزو العالم، وترث الأديان، وتهزم الفلسفات، ولقد لقيت أولى هزائمها على أيدي المجاهدين المسلمين في أفغانستان، حيث انتصروا بأسلحتهم البسيطة وإيمانهم القوي على أعتى دولة ملحدة في التاريخ.

وشاخت مشاريع الأحزاب الوضعية الناقصة القاصرة التي تعاقبت على الحكم، وماتت وما بكى أحد عليها، وقضت نحبها كل الإيديولوجيات التي ورثت الاستعمار ولم تخلف من يرثها، وانتهى دورها، وسقطت قلاع الإلحاد واحدة بعد الأخرى، بدءًا بالاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، وانتهاء بألبانيا، والبقية تأتي بحول الله، و باءت كل التجاربالأرضية بالفشل الذريع، والسقوط المريع لأنها تجارب بشرية مشوبة بالنقص والجهل والهوى والنقص والضعف والعجز وقصر النظر(1). وملَّت الشعوب المسلمة حكم اللائكية، بعد أن فقس بيضها ولم يخرج إلا فراخ التبعية والتمزق والفقر والجهل والتخلف والفحش ما ظهر منه وما بطن، وتتابع سقوط الشعارات والأحزاب غير الإسلامية، وازدادت ثقة الناس في المقابل بأصحاب الفكرة الإسلامية، لأنها أدركت أنه لا يُخلصُ هذا الإنسانَ الحائر إلا المنهج الأصيل الصادر عن علم وحكمة وكمال وقدرة  على أساس تحقيق السعادتين الدنيوية والأخروية. لماذا فشلت الأنظمة الوضعية؟

فشلت الحضارة الغربية وأفلست، وفسدت مناهجها، وكسدت بضائعها، ونالت هزيمتها، لأسباب كثيرة منها :

لأنها سببت للإنسان الانحدار والاندحار حتى انحط في تصوره وذكائه وأخلاقه وهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنى من البهيمة، وعطَّل وظائفه الأساسية، ولأنهاسببت له جوعة روحية لم تُسكنها كل ضروب المتاع واللذائذ التي يعيشها، جوعة إلى إله واحد يتلقى منه غذاء روحه وشريعة فؤاده وشريعة مجتمعه على السواء.

ولأنها أورثته القلق والحيرة والشقاء والتعاسة والنكد والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والجريمة، وأصبحت الإنسانية المادية اليوم في أمس الحاجة إلى ما يسعد نفسها، ويزيل قلقها ويُذهب حيرتها، فرغم ما تنعم به من التقدم المادي والتكنولوجي والصناعي والعلمي، وما تغوص فيه من كل ملذات الحياة، لم تجد السعادة التي تنشدها، والأمن الروحي الذي تطلبه.

ولأنها” كلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية ولا تعيش المبادئ والقيم إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه، الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني… ومن ثم كانت قيما محدودة موقوتة لأنها في الأصل قيم مبتوتة….نبات شيطاني لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية، لأنه ليس آتيا من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية. ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل، ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه…… لم تراع في هذا كله احتياجات الإنسان الحقيقية المنبثقة من  طبيعة تكوينه وأصل خلقته وحقيقة فطرته، وأهملت إهمالا شنيعا أهم مقوماته- التي بها صار الإنسان إنسانا-، ولم تهملها فحسب بل طاردتها في جفوة وعنف”(2)، ولأنها” تقوم على جهالة عميقة بالنفس البشرية وطبيعتها وتاريخها فضلا على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية، وتفسير الكون والحياة(3)، ولأن النظم الاجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية والبرامج السياسية الموجود في البلدان الإسلامية” لم تنبثق من أصلهاالواحد الصحيح، ومن ثم لم تعط الإنسانَ التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الوجود وعلاقته بخالقه، ولحقيقة هذا الإنسان ومركزه في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة”(4). وتنتظر البشرية الحل الإسلامي

بعد فشل هذه المناهج أضحت قلوب الناس حائرة تبحث عن منقذ وتنقب عن مخلص وعن منهج تسعد به، بعدما ذاقت المر والعلقم من جراء المادية المُجحِفة والإباحية المسرفة فلم تجد إلا الشقاء والتعاسة، وبعدما عاشت كثيرا من التجارب فما وجدت إلا سرابا وخرابا ويبابا، ولا زالت تبحث عن مخَلِّص بخصائص و”سمات وملامح معينة تطلبها فيه، وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين! فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن اليقين الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دورا في هذه الأرض هو مدعو لأدائه- أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا- وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلا عنه”(5).

المستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي حفظ الله به الأرواح والأنفس المعصومة، وصان به الأموال والأعراض والعقول، حين حرم قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وحين حرم انتهاك الأعراض وتلويث النسل، وحين حرم تعاطي كل ما يقوض سلامة وصحة العقول من المخدرات والمسكرات وما في معناها، وحين منع أكل أموال الناس بالباطل بكل صوره وألوانه حفاظاً على سلامة البناء الاجتماعي والاقتصادي للناس، ولكيلا تهلك وتسحق الطبقات الضعيفة تحت معاول الأثرة البغيضة، والجشع المفسد للعقول والقلوب والأوضاع، وكل ألوان التكثر بالباطل والتشبع بالحرام، ولأنه هو الذي يحقق كل هذا وينقذ الناس مما هم  فيه من تعاسة وشقاء وحيرة، ولأن فيه علاجا ناجعا لأدوائنا المادية والمعنوية، وحلا حاسما ومخلصا من المشاكل والأزمات.المستقبل للإسلام لأنه منهج حياة ولأنه يشتمل على كل النظم” والمقومات المُنظِّمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشا ط الإنسانية(6)، ولأنه يحتوي على خصائص الشمول والواقعية، و”حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين”(7).

> ذ. أحمد محمد المتوكل -تاونات

———–

1- انظر كتاب: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا للدكتور يوسف القرضاوي

2- المستقبل لهذا الدين سيد قطب: 48-49.

3- المستقبل لهذا الدين سيد قطب ص: 50

4- المستقبل لهذا الدين سيد قطب ص: 52-53- 8 المستقبل لهذا الدين سيد قطب  ص: 8

5- المستقبل لهذا الدين سيد قطب  ص: 5

6- المستقبل لهذا الدين سيد قطب ص: 8

7- المستقبل لهذا الدين سيد قطب ص: 89

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>