د- سـراقـة بـن مـالـك :وَوَقَعَ فِي نَفْسِي -حِينَ لَقِيتُ ماَ لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ-أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فسَأَلْتُهُ كِتَابَ أمْنٍ أعلنتْ قريش في نواديها ـ عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ـ بأن من يأتي بالنبي حيا أو ميتا، فله مائة ناقة. وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب في ضواحي مكة، فطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الجائزة التي أعدتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمان بن مالك المُدلجي ـ وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره : أنه سمع سراقة يقول : جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم
دية عظيمة لمن قتله أو أَسَرَهُ، فبينما أنا جالسٌ من مجالس قومي بني مدلج، إذْ أقبلرجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال : يا سُرَاقَةُ إني رأيتُ آنفا أسْوِدةً(1) بالساحل أراها محمدا وأصحابَه، قال سراقةُ : فعرفتُ أنهم هُمْ، فقلتُ له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيتَ فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قُمتُ، فدخلتُ، فأمرتُ جاريتي أن تخرُجَ بفرسي وهُوَ من وراءِ أكَمَةٍ(2) فتحبسُهَا عليَّ.
فخرجتُ من ظهر البيت حتى أتيتُ الفرسَ فركبتُها، وأسرعْتُ حتى دنوتُ منهم، فعثرت بي فرسي، فخرَرْتُ عنها، فقُمتُ فأهويتُ إلى كنانني فاستخرجت منها الأزلام(3)، فا ستَقْسَمْتُ بها(4) : أضُرُّهُمْ أم لا أَضُرُّهُمْ، فخرج الذي أكره(5) فركبتُ فرسي، وعصيت الأزلام، فقربت منهم، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت(6) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررتُ عنها، ثم زجرتُها فنهضتْ، فلم تكدتُخرج يَدَيْها(7) فلما استوتْ قائمة إذا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ(8) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمتُ بالازلام فخرج الذي أكره.
فناديتُهم با لأمان، فوقفوا، فركبتُ فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتُهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني(9) ولم يسألاني، إلا أنه قال : “أخْفِ عَنَّا” فسألته أن يكتُب لي في كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فهيرة(10) فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم(11).
قال ابن عبد البر : روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال لسراقة : “كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوارَيْ كِسْرى؟”(12).
سبحان مقلب القلوب إن سراقة خرج جاهدا نفسه لينال مائة ناقة أوأكثر(13). ولكن الله عز وجل بقدرته التي لا تُغلب جعله يرجع مدافعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أصبح يحكي ما وقع له ـ بعدما اطمأن على وصول الرسول صلى الله عليه وسلم آمناـ من المعجزات، ويذيع في الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلممنتصر، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سببا لاسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أميرَ بني مُدلج ورئيسهم، فكتب إليهم أبو جهل :
بَنِي مُدلجٍ إنِّيَ أخَافُ سَفِيهَكُمْ سُراقَةَ مُسْتَغْوٍ(14) لِنَصْرِ مُحَمَّدٍ
عَلَيْكُمْ بِــهِ ألاَّ يُفَـــرِّقَ جَمْعَكُمْ فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عَــــزٍّ وسُؤْدَدِ
فقال سراقة يرد عليه :
أَبَا حَكَمٍِ، واللَّهِ لَوْ كُنْتَ شاهِداً لأمْرِ حَوَادِي إِذْ تَسُــوخُ قَوَائِمُهْ(15)
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَــنْ ذَا يُقَاوِمُهْ(16)
عَلَيْكَ، فكُفَّالقَوْمَ عَنْهُ فَإِنَّنِي أَرَى يَـــوْماً سَتَبْدُو مَعَــالـِمُهْ(17)
بِأَمْرٍ، تَوَدُّ النَّاسُ فيهِ بِأَسْــرِهِمْ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ طُراًّ مُسَالِمُهْ(18)
> ذ. المفضل فلواتي رحمه الله تعالى
——
1-أسودة : ج سواد، وهو الشخص الذي يُرى كالشبح من دون أن يُعرف.
2-أكمة : الرّابية والكُدية وكل مرتفع في الأرض.
3-الأزلام : الأقْداح والسهام المخصصة للاستقسام بها.
4-استقسمتُ بها : أخرجتها وحرّكتُها لأعرف هل يخرجُ القِدح الذي يخبرني هل أضره أم لا.
5-الذي أكره : خرج القدح الذي يُخبر أنه لا يضره.
6-ساخت : غاصَتْ في الأرض.
7-فلم تكد تخرج يديها : أخرجت يدَيْها من الأرض بصعوبة.
8-عُثانٌ : دخان يُجمع على عواثن على غير قياس، والعُثان أيضا : الغبار، وفي رواية ابن هشام : وتبعهما دخان كالإعْصار.
9-لم يرزآني : لم يأخذا شيئا مني، وتلك صفة الدّعاة لا أجْر إلامن الله تعالى، ولا طمع إلافي رعاية الله عز وجل.
10-في رواية أن الذي كتب هو أبو بكر في عَظْم، أو رُقعة أو في خزَفة.
11-هذا جزء من رواية البخاري، السيرة النبوية لصلابي 451/1.
12-وقد تحققت النبوة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
13-خصوصاً وأنه كان جزاراً.
14-مستغوٍ : يغوى ويهوى انتصار محمد.
15-أبا حكم : المقصود هو أبو جهل، يقول له لو شاهدت فرسي وكيف ساخت يداه لتَيَقَّنْت أن محمد رسول.
16-لعلمت يا أبا الحكم بدون شك أن محمداً رسول، ولكن المعروف أن أبا جهل شاهد معجزة الفحل، ومعجزة الخندق من النار ولم يومن.
17-عليك : أي الزم نفسك، ولا تشتغل بتحريض الناس على محمد، وعليّ، وعلى من اتبعه فإنه منصور.
18-بأمر : أي بأمر الإسلام، الذي يدعو إليه، فإنه سينتصر وتحب كل الناس أن تُسَالِمَه.