ألم قلم – الإعلام الموجّه


في بداية كتابة هذا المقال، كانت نيتي أن أضبط العنوان بكسر الجيم (بصيغة اسم الفاعل)، لكن بدَا لي بعْدَ البدء في الكتابة أن ضبط الجيم بالفتح (بصيغة اسم المفعول) ممكن أيضا، فهو موجِّه للناس وفق الأهداف المسطرة مسبقا ولخدمة أهداف ربما لا تكون في صالح هؤلاء الناس، وهو موجَّهٌ من قبل أصحاب المصالح وأرباب الأموال الممولين لوسائل الإعلام هذه…

ولذلك فإعلامنا الذي نشاهده ونقرأه ونسمعه موجِّه وموجَّهٌ في ذات الوقت، وقد يصل التوجيه إلى التضليل وقلب الحقائق.

كلنا تابعنا خِلال الأسابيع الماضية حملة وسائل إعلامية إسبانية ضد المغرب، بهدف تضليل الرأي العام الإسباني والتأثير فيه من أجل خدمة أهداف استعمارية مازالت جهات إسبانية تراهن عليه من أجل النيل من سمعة المغرب وتاريخه ووحدة أراضيه واستقلالها.

هذا نموذج.. نموذج آخر مانشاهده من حين إلى آخر من تصوير وسائل الإعلام للأقليات في العالم الإسلامي، حيث يقدمهم، وكأن أقصى وأقسى حالات الاضطهاد قد لحقت بهم، مثل ما شاهدنا في وسائل الإعلام التي تحدثت عن أقباط مصر، حيث صورتهم وكأنهم هم فقط أهل البلاد الأصليون، أما المسلمون فهم عرب وافدون. وكأن المصريين الذين اعتنقوا الاسلام على امتداد التاريخ جاؤوا من المريخ.. ولم يكونوا في بدايتهم أقباطا سكانا لمصر. وهو الأمر الذي تسوقه وسائل إعلام عديدة في أكثر من مكان لإيهام الرأي العام في أكثر من منطقة أن البلدان الإسلامية خارج الجزيرة العربية ينبغي أن يكون “سكانها الأصليون” غير مسلمين، وكأنهم يملكون خرائط جينية لسلالات الأقوام لمعرفة الساكن الأصلي من غيره..

نموذج آخر بدا حينما أعلنت الحكومة الفلسطينية في غزة بتنسيق مع حركات المقاومة أنها تريد التمسك بالهدنة غير المعلنة حتى تجنب الشعب الفلسطيني في  غزة ويلات الهجمات الإسرائيلية الغادرة التي لا تبقي ولا تذر، حيث قدمت وسائل إعلام عربية -مع الأسف- أن هذا الموقف يتناقض مع ما تدعيه حماس من انتهاج أسلوب المقاومة، وأنها بإعلانها هذه الهدنة تريد فقط التمسك بالسلطة… وكأن المقاومة الإسلامية في عرف هذا الإعلام كُتب عليها القتال أبد الآبدين إلى أن تفنى وتبيد، وإلا فإنها لا يمكن أن تسمى مقاومة.

ونموذج آخر ما يصك مسامعنا صباح مساء من  إذاعات مسموعة ومرئية مخضرمة اللغة، فلا هي عربية مغربية ولا هي فرنسية أجنبية، وكأن هذا الإعلام يوجه مُستَميعِيه إلى أن لغة الوطن هي هذه : كلمة أو كلمتان بالعربية، والباقي بالأجنبية، وحتى تلك الأجنبية غير مستقيمة فلا نحن بلغتنا نُتقِنُها، وتعبّر عن هويتنا وحضارتنا، ولا نحن بلغة الآخرين نعبر بها تعبيراً سليما عند الاقتضاء.

ونموذج أخير حينما تُريد هذه الوسائل الإعلامية سلخ وطننا عن محيطهالإقليمي والثقافي والتاريخي والحضاري واللغوي فتخلط بين ما هو عربي وإسلامي بما هو دولي أجنبي مائة في المائة، فحينما نسمع نشرة الأخبار تصك مسامعنا العبارة التالية التي تتَرَدَّدُ في الغالب هكذا : ((دوليا في الأراضي الفلسطينية…))، ((دوليا في السعودية…)) وكأن الأراضي الفلسطينية أو السعودية أو  غيرها من الأوطان العربية والإسلامية ليست جزءا من العالم العربي والإسلامي الذي ننتمي إليه بحكم الدين واللغة والتاريخ والواقع. وإلا فماذا يعني انتماؤنا إلى جامعة الدول العربية، وماذا يعني ا نتماؤنا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي الذي كان للمغرب الفضل في تأسيسها.

إنه إعلام موجه يريد منا أن نعتبر فلسطين وغيرها من الأوطان العربية والإسلامية غريبة عنا فلا نحس بآلامهم ولا يُحسون بآلامنا ولا نفرح بما يفرحون ولا يفرحون بما نفرح، ومن ثَم لا تجتمع لنا كلمة ولا تقوم لنا قائمة، وذلك فيوقت يسعى الأقوياء والضعفاء معاً في أكثر من جهة من جهات المعمور إلى الاتحاد والتجمع على اختلاف أديانهم ولغاتهم وثقافاتهم.

> د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>